مصر- الخيارات المرّة لوقف تدهور العملة
٢١ أغسطس ٢٠١٦شكلت تحويلات المصريين وعوائد السياحة والاستثمارات الأجنبية إلى جانب الدعم الخليجي مصادر التمويل الأساسية لاستقرار سعر الجنيه المصري على مدى العقود الثلاثة الماضية. فبفضل هذه العوائد استطاعت الحكومات المصرية المتعاقبة تأمين مستلزمات الاستيراد وخدمة الدين الخارجي والحفاظ على سعر إداري مصطنع أو غير حقيقي للعملة المصرية. كما استطاعت بفضلها التهرب من إصلاحات اقتصادية قاسية كان من المفترض القيام بها منذ ثمانينيات القرن الماضي. غير أن زمن التهرب انتهى على ما يبدو، لأن مصادر التمويل هذه تتراجع بسرعة لأسباب لا تقتصر على ضعف الاستقرار السياسي والعمليات الإرهابية التي وجهت ضربة موجعة للسياحة والاستثمارات الأجنبية. فمع تراجع أسعار النفط أضحت قدرة الدول الخليجية على تقديم الدعم محدودة، لأنها نفسها بدأت تعاني من العجز وتلجأ للقروض الخارجية.
وهكذا ومع تراجع العوائد المذكورة لم يعد بإمكان الحكومة المصرية الحالية توفير مستلزمات البلاد من العملات الصعبة، لاسيما أن احتياطاتها من العملات الصعبة تراجعت من 36 مليار دولار في عام 2011 إلى أقل من 16 مليار دولار صيف العام الجاري 2016، أي ما يكفي لتغطية واردات البلاد لثلاثة أشهر فقط. ومن أبرز تبعات ذلك ارتفاع سعر الدولار في السوق الحرة أو السوداء إلى نحو 13 جنيهاً مصرياً أواخر يوليو/ تموز الفائت بعدما كان أقل من تسعة جنيهات في مارس/ آذار من نفس العام، وهو الأمر الذي زاد الضغوط التضخمية وارتفاع الأسعار.
أخطاء السياسات الاقتصادية المتراكمة
تفيد خبرات عدد كبير من دول العالم بأن تراجع قيمة العملة المحلية لا يؤدي فقط إلى التضخم وارتفاع الأٍسعار بشكل يضعف القوة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود ويوسع دائر الفقر. فهذا التراجع له أيضاً وجه إيجابي يتمثل في تحفيز زيادة الصادرات التي تصبح رخيصة للمستورد الأجنبي، وهو الأمر الذي يشكل مصدر دخل إضافي للعملة الصعبة بشكل يساعد على عودة الاستقرار للعملة الوطنية مجددا. غير أن تراجع سعر الجنيه المصري لا ينطبق على الخبرات المذكورة، لأن مصر ليست لديها قدرات تصديرية إضافية ملموسة في المدى المنظور. ويعود السبب في ذلك إلى السياسات الاقتصادية المصرية المتبعة منذ أكثر من ثلاثة عقود، فقد قامت هذه السياسات في عهدي الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك على مبدأ ما يسمى "إحلال الواردات" بشكل أدى إلى اختفاء المنتج المصري أو اعتماده على المدخلات المستوردة.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك أن مصر، التي كانت بشكل أساسي تأكل من أرضها وتلبس من قطنها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أصبحت أحد أكبر مستوردي الأغذية على مستوى الشرق الأوسط. وكمثال على خطورة الأمر، شكلت المواد الغذائية لوحدها 17 في المائة من واردات البلاد البالغة أكثر من 71 مليار دولار في عام 2014، حسب نشرة الاستثمارات والتجارة الخارجية الألمانية (GTAI). أما الصادرات في ذلك العام فلم تزد قيمتها على 27 مليار دولار. الجدير ذكره أن مصر تعاني من عجز تجاري مزمن ازدادت حدته خلال السنوات الثلاث الماضية. كما أن حجم الدين الخارجي تخطى 44 مليار دولار خلال العام الماضي 2015 حسب النشرة المذكورة.
صندوق النقد الدولي وجرعته الجديدة
في محاولة منها لوقف تدهور الجنيه والوفاء بالتزاماتها المالية وإعطاء "جرعة أكسجين لاقتصادها المتردي"، اتفقت الحكومة المصرية أواخر يوليو/ تموز الفائت مع صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 12 مليار دولار. ويشمل الاتفاق تقديم القرض على مدى ثلاث سنوات مقابل التزام الحكومة المذكورة باستكمال إصلاح منظومة دعم مصادر الطاقة وفرض ضريبة للقيمة المضافة وبيع شركات مملوكة للدولة في البورصة لزيادة إيرادات الخزينة. وبغض النظر عن مدى النجاح في التطبيق، فإن القرض قد يسعف الجنيه لبعض الوقت، غير أنه لن يستطيع بمفرده إيقاف تراجعه إلى مستويات متدنية جديدة. ويعود السبب في ذلك إلى أن مصر بحاجة إلى أضعاف قيمته للوفاء بالتزاماتها المالية خلال السنوات الخمس القادمة. كما أن مصادر التمويل الحالية من سياحة واستثمارات أجنبية ودعم خليجي وغيرها لا تتجه إلى التحسن على ضوء الأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط والركود الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي. ومن هنا فإن إيجاد بدائل محلية لهذه المصادر أضحى من باب الضرورة، لا بل الضرورة القصوى.
إعادة إحياء القدرات الذاتية
عزز الرئيس عبد الفتاح السيسي وحكوماته سياسات خفض وتنظيم الدعم الحكومي للسلع الأساسية وفي مقدمتها مصادر الطاقة التي تم رفع أسعارها مؤخراً بنسب تراوحت بين 25 و40 في المائة. غير أن ثمار هذه السياسات ما تزال في بداياتها، مع العلم أن نجاحها مرتبط بخطوات أسرع تؤدي في النهاية إلى تقديم الدعم لمن يستحقه فقط. كما أن هذا النجاح مرتبط بسياسات أخرى تؤدي إلى إعادة إحياء دور المنتج المحلي المصري وحمايته بشكل يؤدي إلى توفير السلع الاستهلاكية الأساسية بأسعار مناسبة في السوق المحلية وإلى فتح أسواق خارجية جديدة بشكل يوفر سنوياً على الخزينة المصرية مليارات الدولارات التي تستورد بها الأغذية والألبسة وسلع يومية أخرى في الوقت الحاضر.
ويذهب أحمد النجار، الخبير بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، في مقابلة مع DW عربية إلى أبعد من ذلك ليطالب بترشيد أقوى للاستيراد عن طريق الحد من استيراد السلع الكمالية والترفيهية بهدف تقليص العجز المزمن في الميزان التجاري. وبدوره يدعو رجل الأعمال المصري صلاح دياب، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية، إلى "ابتعاد الدولة عن المشروعات القومية الكبرى التي تم الإعلان عنها" مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، كونها تستنزف موارد الحكومة وجهدها، فمثل "هذه المشاريع يمكن تركها لمطورين من القطاع الخاص مع إعطائهم المزايا التي تجعل هذه المشاريع جاذبة لهم".
الإصلاحات المطلوبة مؤلمة
وهكذا، فإن البدائل المتاحة لضمان استقرار العملة المصرية مرتبطة باعتماد إصلاحات شاملة تؤدي إلى إعادة هيكلة الاقتصاد المصري واعتماده بشكل أساسي على قدراته الذاتية بدلاً من العوامل الخارجية. وقد وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه هذه الإصلاحات بأنها قاسية ومؤلمة، إذ قال في كلمة أثناء افتتاح مصنع للبتروكيماويات في الإسكندرية في النصف الأول من أغسطس/ آب الجاري إنه لن يتردد في اتخاذ كل القرارات الصعبة التي تردد كثيرون على مدى سنوات طويلة في اتخاذها. ويقصد السيسي بذلك على وجه الخصوص الإصلاحات التي تجنبها الرئيسان السادات ومبارك خشية اندلاع احتجاجات شعبية.
وفي هذا الإطار، أشار السيسي إلى ضرورة تقليص العمالة الزائدة في الإدارات الحكومية والشركات التي تملكها الدولة، مضيفاً: "عندما أقوم بتعيين 900 ألف شخص في القطاع العام لأن هناك ضغوطاً من الناس من أجل التوظيف في حين أنني لا أحتاج منهم أحد ، ماذا سيكون تأثير ذلك؟" وتابع بالقول إن دفع رواتب هؤلاء يؤدي إلى زيادة الدين العام الداخلي للحكومة الذي يتجاوز بقليل 100 في المائة من إجمالي الناتج القومي. كما قال: "إننا نقترض ونقترض ونقترض وكلما اقترضنا أكبر كلما زاد الدين".
السؤال الذي يطرح نفسه: هل يقدم الرئيس السيسي بالفعل على إصلاحات كان من المفترض القيام بها منذ عقود، لاسيما وأن المتضررين منها في القطاع العام وفي أوساط الفقراء والدخل المحدود كثر، وهؤلاء لن يسلموا بها دون احتجاجات قد يكون لها تبعات سياسية لا تحمد عقباها؟