مشروع رأس الحكمة - حل لأزمة الاقتصاد المصري أم مُسَكّن مؤقت؟
٢٧ فبراير ٢٠٢٤على بعد نحو 350 كيلومترا شمال غرب القاهرة، تقع مدينة رأس الحكمة، وهي عبارة عن لسان أو نتوء على الطريق الساحلي المحاذي للبحر المتوسط، ضمن حدود محافظة مرسى مطروح الساحلية.
ورغم الموقع الخلاب المطل على ساحل البحر والشهرة التي تعود إلى العصر الملكي، حيث كانت المنطقة تضم استراحة للملك فاروق، آخر من حكم مصر من أسرة محمد علي باشا، إلا أن قليلين فقط من عامة المصريين كانوا على دراية بما تزخر به هذه المنطقة من محميات طبيعية وشواطئ غاية في النقاء.
بيد أن هذا كان الحال قبل تفجر الجدل مؤخرا حول مشروع رأس الحكمة بين مصر والإمارات وما تلى ذلك من إعلان رسمي عن المشروع على لسان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الذي قال إن حكومته وقعت عقدا مع شركة أبوظبي القابضة (ADQ)، التي تعد أصغر صناديق الاستثمار السيادية الثلاثة الرئيسية في الإمارة الخليجية، لإنشاء شركة مساهمة مصرية باسم شركة رأس الحكمة.
ووصف مدبولي الاتفاق بأنه "أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر" في البلاد، حيث ستحصل البلاد بموجبه على نحو 35 مليار دولار في غضون شهرين بإجمالي 150 مليار دولار، وفق البيانات الرسمية.
وقال مدبولي إن المشروع - الذي يتوقع أن يبدأ تنفيذه مطلع العام المقبل- يرمي إلى تحويل رأس الحكمة إلى وجهة سياحية ومنطقة حرة وأخرى استثمارية فيما قالت شركة أبوظبي القابضة إنها استحوذت على حقوق تطوير المشروع مقابل 24 مليار دولار وأن الحكومة المصرية ستحتفظ بحصة قدرها 35 في المئة في المشروع وعوائده.
وسبق الإعلان الرسمي عن الاتفاق، حالة جدل واسعة النطاق أثارتها مزاعم عن "بيع" المنطقة السياحية الواعدة، وهو ما نفته الحكومة المصرية، التي أكدت أن المشروع "لا يمثل بيعا للأصول وإنما شراكة" مع الإمارات.
تحذير من التفاؤل المفرط
وقال عدد من الخبراء إن المشروع سيساهم في حل "أزمة السيولة الدولارية"، ما يسهم في تحقيق الاستقرار النقدي وخفض معدلات التضخم المرتفعة.
وفي مقابلة مع DW عربية، قال تيموثي كالداس، نائب مدير معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط ومقره واشنطن: "إذا كانت الأرقام المعلنة صحيحة، فإن الإعفاء من 11 مليار دولار، والأهم من ذلك، ضخ 24 مليار دولار في شكل سيولة جديدة من شأنه أن يساعد في تعزيز الاستقرار المالي العام في مصر وتهدئة المخاوف واسعة النطاق بشأن قدرة الدولة المصرية على سداد ديونها".
لكن الخبير الاقتصادي دعا إلى ضرورة توخي الحذر حيال المبالغة في التوقعات الإيجابية بشأن المشروع، عازيا ذلك إلى أسباب، أبرزها "تبخر التعهدات الكبرى في الماضي عند الإعلان عن العاصمة الإدارية الجديدة حيث أدت التوترات بين مصر والإمارات بشأن التفاصيل والجدول الزمني للمشروع إلى انسحاب المطور الإماراتي ما دفع الدولة المصرية إلى تمويل جزء كبير من المشروع مما فاقم من مشاكل مصر المالية". وتابع كالداس: "يُضاف إلى ذلك قيام الحكومة بإهدار ما تم ضخه من أموال في الماضي بسرعة غير عادية".
وتئن مصر تحت وطأة ديون خارجية تضاعفت أكثر من ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية حتى تجاوزت عتبة الـ 164 مليار دولار، بحسب البيانات الرسمية.
وتزايدت الأوضاع الاقتصادية سوءا مع ما تواجهه البلاد من أزمة نقص في النقد الأجنبي جراء خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار، فضلا عن تقلص موارد البلاد من العملة الصعبة سواء بسبب حرب روسيا على أوكرانيا وقبلها جائحة كورونا وأخيرا الصراع في غزة.
وعلى وقع ذلك، اضطرت الحكومة المصرية إلى الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حيث وقعت اتفاقا مع الصندوق قبل عامين للحصول على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار، بيد أنها لم تحصل إلا على 347 مليون دولار، فيما تأجل صرف باقي الشرائح بسبب الخلافات الثنائية.
"مخرج شبه مشرف "
وترى سلمى حسين، الباحثة في العدالة الاقتصادية والاجتماعية في مصر، أن "الحكومة الحالية بدأت بتشجيع من صندوق النقد الدولي في سياسة الاعتماد المتزايد على الاقتراض من الخارج منذ ٢٠١٦-٢٠١٧ في تجاهل لأي رقابة على الحصول على الديون".
وفي مقابلة مع DW عربية، أضافت: "أسفر ذلك عن تراكم مذهل لعبء السداد بين عامي 2023 و 2025 ما يعني أن مصر باتت بين شطري الرحى". وتابعت تقول: "الاقتراض من أجل السداد هو بمثابة خيار مستحيل لأنه سيعمل على إطالة أزمة الدولار من ثلاث إلى خمس سنوات".
وأشارت إلى أن الخيار الثاني يتمثل في "توفير الدولارات من أجل سداد الدين وهو ما يقدمه (مشروع رأس الحكمة) بمعنى استثمار أجنبي بقيمة ٢٤ مليار دولار ودخول دولارات إلى الاقتصاد دون ضرورة سدادها إضافة إلى التخفيف من عبء القروض الاماراتية (١١ مليار دولار)".
وقالت سلمى حسين إن الأمر كان بمثابة "مخرج شبه مشرف من أزمة ٢٠٢٣، وإلا لكانت مصر مضطرة إلى الامتناع عن سداد ديونها لأول مرة في تاريخها".
بعض الثقة
وفي أول رد إيجابي فوري على الاتفاق، انخفض سعر الدولار أمام الجنيه في السوق الموازية "السوداء"، وهو ما أثار بعض التفاؤل، خاصة أن سعر الدولار بلغ 70 جنيها في معدل غير مسبوق.
وتأمل الحكومة المصرية في أن تسفر تدفقات العملات الأجنبية عن انخفاض سعر الدولار أمام الجنيه في السوق السوداء على أمل القضاء على تلك السوق في ضوء تعزيز قدرتها على توفير الدولار وتغيير سعر الصرف الرسمي ليكون أكثر واقعية من سعره في الأسواق الموازية.
وتفاقمت أزمة نقص العملات الأجنبية بسبب انخفاض إيرادات قناة السويس في أعقاب أزمة الملاحة في البحر الأحمر بنسبة ما بين 40 و50 بالمائة فضلا عن انخفاض تحويلات المصريين بالخارج التي تشكل مصدرا مهما للنقد الأجنبي في البلاد.
وتراجعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج بنسبة 30.8% على أساس سنوي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
وفي تعليقه، قال كالداس إن "ضخ الأموال النقدية يكسب مصر ثقة مؤقتة بين أوساط المستثمرين، لكن يتعين (على الحكومة) استغلال الفرصة والتعلم من الدروس المؤلمة، ما يفضي في نهاية المطاف إلى تغيير المسار. سيكون ذلك بمثابة مفتاح استعادة ثقة المستثمرين والمستهلكين على المدى الطويل".
وحذر كالداس من مغبة استمرار المشاريع الضخمة "غير المستدامة التي لم يتم دراستها بشكل جيد وجرى إبرامها مع شركات دون منافسة حقيقية مع التقاعس عن حماية الجنيه. يمكن أن يعيد ذلك مصر إلى المشاكل ذاتها بشكل أسرع بكثير مما قد يتصوره البعض".
"فرصة تصحيح المسار"
وتتفق في هذا الرأي الباحثة في العدالة الاقتصادية والاجتماعية، سلمى حسين، محذرة من التقليل من أهمية الشفافية والمحاسبة.
وفي حديثها مع DW عربية، قالت: "لا يمكن التهاون مع الأسئلة الخاصة بالشفافية والمحاسبة لأن الدراسات تشير إلى أن غيابهما يؤدي إلى زيادة الدين الحكومي"، مضيفة أن مشروع رأس الحكمة يمثل "فرصة لتصحيح المسار".
وأشارت سلمى حسين إلى أن الإعلان الرسمي عن الاتفاق يثير الكثير من علامات الاستفهام أبرزها "كيف تم تقييم حصة الدولة؟ لماذا لم تتم الصفقة من خلال مزاد علني تقدم فيه عدد من الشركات عروضا فنية ومالية؟ ما هو الشرط الجزائي لو انسحب القطاع الخاص؟"
"أكبر من أن تفشل"، ولكن؟
ورغم بعض التحفظ والتخوف حيال اتفاق "رأس الحكمة"، إلا أن المشروع لاقى الكثير من الإشادة من جانب أبرز رجال الأعمال المصريين، خاصة الملياردير نجيب ساويرس، الذي وجّه في تغريدة على منصة "إكس" شكره "للإمارات" على "دعم غير طبيعي وكرم غير مسبوق"، آملا "أن تعى القيادة المصرية أن هذه فرصة آخيرة لتغيير المسار الحالى"، حسب قوله.
فيما شمل الأمر بعض الإشادات من كبار رجال الأعمال والسياسة في الدولة الخليجية ومن بينهم أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة، الذي اعتبر في تدوينة له على موقع "إكس" أن "مشروع رأس الحكمة خطوة نوعية أخرى في تعزيز الروابط الإماراتية المصرية من بوابة الاقتصاد و الاستثمار".
وبدورها، نقلت وكالة رويترز عن فيكتور زابو، مدير الاستثمار في شركة "أبردن" الاستثمارية ومقرها لندن، قوله إن الإعلان عن المشروع يظهر أن مصر "أكبر من أن تفشل"، مضيفا: "هذا تطور جيد وسيساعد في النمو بالتأكيد، لكن مصر ستشهد فوائد أكبر على المدى المتوسط".
ورغم إقرار سلمى حسين، الباحثة في العدالة الاقتصادية والاجتماعية، بأنّ الاتفاق سوف "يسهم في تخفيف حدة أزمة الدولار ومن ثم سيكون هناك انخفاض تدريجي في معدل التضخم العام الجاري" إلا أنها شددت على "ضرورة الشروع في إجراءات ذات فعالية". وفي ذلك، قالت: "ما لم يكن هناك اتفاقان قادمان بنفس الحجم فإن الوضع سيعود الى التأزم. وإذا لم تتعامل الحكومة مع مسببات الفقر والجوع الهيكلية، فلن يتحسن وضع غالبية المواطنين".