ماكرون في مواجهة مع الشارع.. إلى أين تمضي احتجاجات فرنسا؟
٦ ديسمبر ٢٠١٨سنة ونصف تقريباً بعد انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية، يجد إيمانويل ماكرون نفسه أمام تحد كبير لم يشهده العديد من سابقيه، فالاحتجاجات ضد خياراته الاقتصادية لم تتوقف. ورغم أن الرئاسة الفرنسية أعلنت هذا الأسبوع إلغاء الزيادات على المحروقات لعام 2019 في محاولة منها للتجاوب مع الاحتجاجات، إلّا أن حالة الاحتقان لا تزال مستمرة، إذ أبدى قصر الإليزيه تخوّفه من إمكانية حدوث أعمال عنف واسعة في مظاهرات نهاية الأسبوع.
تطوّر الاحتجاجات إلى أعمال عنف جعل العالم يترّقب مستقبل دولة ينظر إليها كواحدة من قوى دول العالم ومن أكثرها استقراراُ، خاصة وأن المتظاهرون رفعوا سقف مطالبهم، في وقت ردّ فيه ماكرون بتصريحات أكد من خلالها أنه لن يسمح بالاعتداء على الدولة. فما هو سياق هذه الاحتجاجات؟ وهل يملك ماكرون خيارات كثيرة؟ وما الأثر على استقرار فرنسا؟ وهل يمكن الحديث فعلا عن "ربيع فرنسي"، كما يحلو لبعض المحللين أن يسميه؟
سياق اقتصادي صعب
أضحى المستهلك هو المتضرّر الأكبر مالياً من الزيادات الأخيرة في أسعار المحروقات ومن سياسات ماكرون الذي رغب بنهج سياسة اقتصادية تقوم على الحفاظ على البيئة ودفع الناس إلى التخلّي عن الاستخدام المكثف لسياراتهم. هكذا إذن بدأت احتجاجات أصحاب "السترات الصفراء" بشكل عفوي، دون أن ترتبط بحركات سياسية أو نقابية معروفة، إذ ضاق الكثير من الفرنسيين ذرعاً بالارتفاع المستمر في ضرائب الكربون والديزل والبنزين، الأمر الذي أدى إلى رفع أسعار المحروقات بشكل غير مسبوق.
في حوار مع موقع لوموند، يقول ماتيلد لارير، مؤرخ فرنسي، أن فرنسا تشهد "حركة مستهلكين بين محتجين تجمعهم قدرة شرائية ضعيفة". ويتحدث عن أن سبب التظاهر هو تقريباً نفسه الذي أجّح عدة حركات اجتماعية منذ العصر الوسيط، فـ"السؤال كان دوما حول الحصول على الغذاء. سابقاً، كان ثمن الخبز، والآن هو ثمن البنزين".
وما أجّج الاحتجاجات أنها جاءت في سياق اقتصادي صعب تعيشه فرنسا، حسب ما يؤكده يونس بلفلاح، أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية بجامعة ليل الفرنسية، إذ يشير، في حديث مع DW عربية إلى وجود ركود كبير، من مظاهره نمو لا يتجاوز 2 في المئة، وأكثر من 3 مليون عاطل، وعجز متفاقم في المديونية. وبلغت الأزمة بالاقتصاد الفرنسي أنه لم يعد قادراً على منافسة القوى الصاعدة، فضلاً عن خسارته لمناطق نفوذ اقتصادية كبيرة، وفق كلام الخبير.
ضغط كبير على ماكرون
لم تطالب اللافتات التي رفعت في الاحتجاجات، فقط بالتراجع عن الزيادات، بل طالبت الرئيس الشاب بالرحيل، ومن الشعارات ما استلهم روح الثورة الفرنسية عبر رفع شعارات إسقاط النظام وإنهاء فترة "الملك ماكرون"، وهو من كان مناصروه يرون فيه قائدا جديداً لأوروبا في وجه اليمين الشعبوي. لذلك كان غلاف مجلة التايم ساخراً عندما حمل عنوان "ماكرون سيكون القائد الجديد لأوروبا"، وتحته شرط "إذا استطاع أن يقود فرنسا"!
في مقال له، يتحدث أرنو ميرسيي، أستاذ التواصل بالمعهد الفرنسي للصحافة، أن أكبر خطأ ارتكبه ماكرون هو اعتقاده أن نتائج الانتخابات تعكس ثقة الناخبين في "التغيير الذي يتقمصه"، بينما أن استطلاعات الرأي توّضح أن الناخبين لم يروا أن ماكرون يناسب اختياراتهم، بل كان فوزه ناتجاً أساساً عن اقتناع شريحة من الفرنسيين أن التصويت واجب رغم عدم الإعجاب ببرامج المرّشحين، وكذلك بفضل استفادته من"تصويت عقابي" لشريحة أخرى رفضت فوز المرّشحين الآخرين.
"ماكرون لم يقدر حجم الاحتجاجات. اعتقد أنه سيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتناسى أن هناك معارضة في الشارع" يقول يونس بلفلاح، مشيراً إلى أن تراجع ماكرون عن زيادات المحروقات يبقى تكتيكياً، إذ التزم ماكرون في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019 بسياساته الاقتصادية، وسيحاول العمل على تهدئة الشارع حتى تمر هذه الفترة الحساسة.
لكن لِمَ يصّر ماكرون على سياساته؟ يجيب بلفلاح أن الإصلاحات ضرورية في فرنسا حتى تتحول إلى دولة نيوليبرالية وتتجاوز أزماتها، وهو أمر غير ممكن إلّا مع تغيير الطبيعة الاشتراكية للدولة التي تركز على نظام الرعاية الاجتماعية. لذلك "يبقى ماكرون شجاعاً ما دام لجأ إلى خيار قاسٍ لم يلجأ إليه رؤساء سابقون خوفاً من الاحتقان الشعبي".
أيّ أثر على استقرار فرنسا؟
جنحت الاحتجاجات إلى عنف غير مسبوق، خاصة بعد ورود تقارير عن اندساس متطرّفين يمينيين ويساريين بين المتظاهرين. قُتل ثلاثة أشخاص وجُرح العشرات بينهم عناصر من الشرطة، كما اعتُقل المئات. الخسائر المادية كانت كبيرة، ولم يسلم منها قوس النصر الذي قدرت قيمة أضراره بحوالي مليون يورو. التصعيد الذي يشتد كلّ يوم أثار أسئلة كثيرة حول الأثر على استقرار فرنسا، ومدى إمكانية انضمام مجموعات أخرى ناقمة على سياسات الدولة.
يشير المؤرخ ماتيلد لارير، في حواره موقع لوموند، إلى أن الوضع قابل للانفجار أكثر بما أن الاحتجاجات يشارك فيها أشخاص لديهم وضع اجتماعي ومهني، مبرزاً أنها تتشابه مع احتجاجات وقعت قديماً في وجود مسافة بين النخبة والطبقة الشعبية. ويمضي المؤرخ في القول إن الاحتجاجات الأخيرة تشبه نوعاً ما الثورة الفرنسية في انخراطها في دينامية من مظاهر الصراع داخل المجتمع وتداخلها مع حركات احتجاجية أخرى. غير أن المؤرخ رفض تأكيد أو نفي احتواء هذه الاحتجاجات على حركية ثورية، مشيراً إلى أن البحث التاريخي يؤكد أن كل السيناريوهات متوقفة على بعض التفاصيل كطريقة تعامل الدولة مع الاحتجاجات.
لكن الطابع العنيف للاحتجاجات يمكن أن يلعب لصالح ماكرون، حسب ما يؤكده بلفلاح، فظاهرة التخريب تسيء إلى سمعة الاحتجاجات، كما أن دخول مجموعات فئوية على خط التظاهر من شأنه تشتيت المطالب وتمكين الدولة من اختراق هذه الاحتجاجات وإضعافها عبر الاستجابة للمطالب الفئوية.
هل هناك حقاُ "ربيع فرنسي"؟
تحمل احتجاجات "السترات الصفراء" بعض معالم "الربيع العربي"، فأسباب التظاهر في الحركتين تتشابه تقريبا، مثل غلاء المعيشة وغياب العدالة الاجتماعية. كما أن الدعوة إلى الاحتجاج في الحالتين تمت بالاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي. فالدعوة لـ"الربيع العربي" تمت في بداية الأمر عبر مجموعات في فيسبوك ووسوم في تويتر، واحتجاجات فرنسا نمت بعد مشاركة فيديوهات تشكي غلاء العيش.
ومن أبرز ملامح التشابه كذلك، عدم قيام النقابات والأحزاب بدور كبير في تنسيق الاحتجاجات، فضلاً عن تشابه الشعارات، فالشعار الشهير: "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي انطلق من تونس وعمّ دولاً عربية أخرى، تكرّر في فرنسا رغم أن ماكرون يبقى رئيساً منتخباً بطريقة ديمقراطية، ورحيله دستوريا وفي الأحوال الطبيعية سيتم عبر صناديق الانتخابات.
ومن جانبه، حاول ماكرون، في بعض تصريحاته التركيز على الجانب العاطفي بدعوة الفرنسيين إلى المحافظة على الدولة، وتأكيده على الرباط الوثيق بينها وبين مصالح المواطنين.
ويرفض بلفلاح مقارنة الاحتجاجات بالربيع العربي: "تبقى فرنسا دولة مؤسساتية تملك تقليداً انتخابياً، من معالمه تقديس التداول السلمي للسلطة". وهناك سبب آخر لغياب هذه المقارنة وفق قوله هو طريقة تعامل قوى الأمن مع الاحتجاجات، فـ"الأمن الفرنسي يدير الملف كما لو أنه متضامن مع المتظاهرين". لذلك يتوقع الخبير أن تنتهي الأزمة عبر قنوات الحوار بشكلٍ يتيح لماكرون الاستمرار في منصبه وفي سياساته، لكن عبر تقديم تنازلات وبشكل هادئ بعيد عن أيّ سياسة صدامية.
الكاتب: إسماعيل عزام