مآوي لجوء السوريين في برلين بين الواقع والآمال
٢٦ أغسطس ٢٠١٤تقع إحدى البنايات السكنية للاجئين في منطقة صناعية في حي شباندوا، قرب محطة لتوليد الطاقة الكهربائية تعمل بالفحم وتنفث دخانها الكثيف في الهواء. يتأكد البواب من هوية كل شخص عند الدخول والخروج، حيث يسأل عن سبب الزيارة، غير أنه يمكن تسلل السور. ليس البناء من الأسمنت المسلح، بل عبارة عن حاويات (الكونتينرات). في غرفة لا تتجاوز مساحتها 16 متر مربع. يسكن جهاد وعائلته المكونة من 3 أطفال بين 12 سنة وسنتين. ليس هناك من ستائر تحجب عيون الفضوليين، كما تفضح جدران الحاويات همس الكلمات. الأثاث بسيط وبالكاد يفي بالحد الأدنى للاحتياجات. الحمامات والمطابخ مشتركة بين السكان. يشكو جهاد من سوء الوضع، ولكنه يعود ليستدرك: "السكن قديم وبنيته التحتية سيئة؛ فمهما اعتنى القائمون عليه به، تبقى هناك ثغرات ونواقص، وهم على كل حال متعاونون ويبذلون قصارى جهدهم لخدمتنا."
سكن الحاويات
الشابان (ن م) و(ف ف) قررا اللجوء إلى ألمانيا لأنها "بلد حقوق الإنسان" غير أن خيبة الأمل تبدو على وجهيهما ويقول أحدهم "فؤجنا بما وجدناه؛ أما عن سوء النظافة فحدث ولا حرج. نضطر لقضاء حاجتنا في مطاعم أو مقاهي خارج السكن؛ خوفاً من الإصابة بالجدري والجرب". ويؤكد مدير السكن السيد شاكما ذلك قائلا: "هذا السكن مخصص كسكن أولي للمهاجرين غير الشرعين، وليس من المستبعد أن يجلب بعضهم أمراضا معدية، والتي نقوم بمعالجتها". ويرى صلاح لويش "أن جزءا كبيرا من المشكلة يتجلى في كثرة عدد الساكنين هنا وقدومهم من بيئات وثقافات متعددة، فيترتب عن ذلك معايير مختلفة للنظافة". ويتابع صلاح قائلاً: "يوزعوا علينا مواد التنظيف من شامبو وشفرات حلاقة ومحارم ومزيل للعرق ومواد للغسيل، ويمكننا الغسيل مرة واحدة كل أسبوع". ويعلق السيد شاكما قائلا: "معظم السوريين هنا من طبقة اجتماعية متوسطة فما فوق وذوي مستوى تعليمي جيد؛ ولذلك لا يعجبهم كثيرا الوضع هنا. ونحن كذلك غير راضين.
"
ثقافات وأذواق متباينة
انتقلنا إلى سكن آخر على أطراف برلين في منطقة غاتو، على ضفة نهر شبريه وسط غابة. النسيم عليل والهدوء يبعث السكينة في النفس. كان هذا المكان فيما مضى مشفى ومأوى لكبار السن. أمام المطعم التقينا بعائلة الرجل الخمسيني أبو حسان، حيث بدت تجاعيد الدهرعلى محياه، وهو يحمد الله على كل شيء ويصف الوضع بالجيد بشكل عام. ولكنه يشكو من "قلة كمية الطعام لعائلته"، أما هو فيضطر لشراء طعام من خارج الملجأ، يتناسب مع وضعه الصحي لأنه مصاب بفشل كلوي. الرأي المغاير وجدناه عند م. ل (27 عاما)، وهو ملاكم ومدرس التربية الرياضية والذي يصرح أن "الوضع سيء ومعاملة بعض الموظفين كذلك". أما عن الطعام فيقول بأنه "غير متنوع وبلا طعم ولا نكهة". وترى أم محمد السيدة في الأربعينات من العمر والعاملة سابقا كباحثة اجتماعية في شؤون اللاجئين الفلسطينين في سوريا ، الأمر بعيون أكثر إيجابية: "إن سبب صدمة البعض يعود لاعتقادهم بان مجرد الوصول لألمانيا يضمن حياة الاستقرار والرفاهية. من المستحيل إرضاء أذواق أناس من أكثر من عشرين دولة، وأنا أعطي الطعام علامة 7 من 10".
صادفنا رجلا في منتصف العقد الرابع من العمر، توجس خيفة بادئ الأمر، ولكنه عاد ودعانا إلى غرفته. يستلقي أخاه الأكبر على السرير ويبدو عليه آثار التعب. لقد خضع لعمليتين جراحيتين لاستبدال صمام القلب، وما زال يشكو من عدم انتظام دقات القلب، ويحتاج المراقبة والمرافقة على مدار الساعة؛ لذلك لا يفارقه أخوه الأصغر، فيكون بذلك مضطرا على ترك عائلته التي تعيش وحدها في سكن آخر في برلين. وتعيش أختهم الأخرى، التي تعاني من مرض السرطان، في سكن للاجئين ببرلين،وهو سكن خاص بذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة. وللأخ الاكبر ابن لاجئ بالقرب من مدينة آخن في غرب ألمانيا. وتسعى العائلة المشتتة الآن إلى لم شمل الأخ الأكبر مع الأخت بالسكن المخصص للمرضى؛ حتى يتمكن الأخ الأصغر من الالتحاق بعائلته. و كل ذلك وسط إجراءات بيروقراطية معقدة. إنها الغربة والشتات بنسختها السورية الأكثر درامية، بعد ركوب زوارق الموت.
مشاجرة جماعية ومعرض فني
محطتنا الأخيرة كانت زيارة سكن للاجئين تابع ل "البرنامج الألماني لاستقبال اللاجئين السوريين" في حي مارينفيلدا. تم بناء هذا السكن في خمسينات القرن المنصرم لإيواء اللاجئين الألمان الفارين من ألمانيا الشرقية. إنه سكن بمستوى خمس نجوم مقارنة بغيره؛ فهناك ملاعب وروضة أطفال ودورات لتعليم اللغة الألمانية وغيرها من المرافق الخدمية وبمعايير جيدة. ولكل عائلة شقتها الخاصة المجهزة بكل شيء ما عدا الغسالة. لم يعكر صفو هذا السكن إلا بعض التوترات ومشاجرات التي حدثت هنا قبل أكثر من أسبوعيين بين سوريين وبعض الشيشان، أصابت الجانبين بجروح، مما استدعى تدخل الشرطة واستنفار السلطات المحلية. وقد أكدت مديرة السكن، أوتو شتيرنل، أنه "لا خلفية دينية للمشاجرة"، نافيةً بذلك ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من أن المشاجرة حصلت بين شيشان مسلمين وسوريين مسيحيين. وبجهود عقلاء من الطرفيين تمت المصالحة. من بين هؤلاء الفنان التشكيلي السوري خالد داغستاني. كان خالد وعائلته أول عائلة سورية تصل ألمانيا ضمن "برنامج ألمانيا لاستقبال اللاجئين السوريين". أقام خالد ومجموعة من 13 فنانا الألمان وأجانب معرض تشكيليا داخل السكن تحت عنوان "وصول". وقد لقي المعرض دعما من السلطات المحلية، ورجال أعمال، ومواطنين، وكنائس. ويقول منظم المعرض غونتر هيدك: "الوصول له أبعاد عدة: يأتي الفنانون لعرض أعمالهم، والجيران بهدف الدعم، والزائر لمشاهدة الأعمال الفنية، كما يأتي اللاجئ ليخطو أولى خطواته هناك بلا اضطهاد".