للمعاناة في اليمن وجوه متعددة - محنة موظفي القطاع العام
٢٧ يناير ٢٠٢٣بعد ستة أعوام، على توقف الجهات الحكومية عن دفع راتبه الوظيفي، بات اليمني نبيل محمد (50 عاماً)، يعاني مضاعفات صحية ونفسية وهو غير قادر على دفع نفقات ترميم أسقف منزله، التي تدهور حالها هي الأخرى مع تقادم السنوات وبسب الأمطار الموسمية الفترة الماضية. وعلى الرغم من ذلك، فإن مسألة إعادة الأمل، بانتهاء محنته وعودة مرتباته، على ضوء الجهود الدولية والتصريحات المترافقة معها بشأن مفاوضات تتضمن ترتيبات اقتصادية لحل الأزمة، مسألة يجب النظر إليها بحذرٍ شديدٍ، نتيجة خيبات آمل سابقة.
حتى الربع الأخير من العام 2016، تاريخ توقف دفع مرتبات القطاع العام، كان محمد يتقاضى راتباً متوسطاً كمدير إحدى الدوائر الحكومية المحلية في صنعاء، يكفي لنفقات عائلته المؤلفة من زوجته وخمسة أبناء، يدرسون في مدرسة خاصة، لكنه وبمجرد توقف مصدر دخله، يقول لـDW عربية، إنه عجز عن سداد رسوم المدرسة واضطر لنقلهم لاحقاً إلى إحدى المدارس الحكومية، بعد ذلك باع أغلب مقتنياته ومقتنيات زوجته، إلى جانب الديون التي تحملها من معارفه، وصولاً إلى نفقات علاجه حيث يعاني من السكر. وكل ذلك أثر على نفسيته ونفسيات أطفاله، إذ يتابع "حالنا لا يعلمه إلا الله".
بالنسبة للوظيفة التي كان يشغلها، فإن "الدوام" اليومي لم يعد ممكناً بصورته التقليدية بالنسبة إليه، في ظل توقف الراتب وانعدام الحوافز، وصولاً إلى حالة الشلل التي تأثرت فيها المصالح الحكومية لاسيما التى تعتمد على النفقات الجارية، وبات أشخاص آخرون مرتبطون بسلطة جماعة "أنصار الله" الحوثية، يديرون هذه المرافق في الغالب. ومع ذلك، فإن محمد يحرص على التوجه إلى مقر مكتب عمله من حين لآخر، ليضمن بقاء وظيفته، التي لا يعوده منها سوى نصف مرتب كل عدة أشهر، لكنه يحافظ على الأمل بعودة حقوقه الوظيفية يوماً ما.
الفئة الأكثر تضرراً
ومنذ توقف الجهات الحكومية عن دفع المرتبات في سبتمبر/ أيلول 2016، وما تبع ذلك، من انقسام اقتصادي، تحول موظفو القطاع العام، من فئة آمنة معيشياً إلى طبقة مسحوقة، صُودرت حقوقها على ذمة الحرب والاتهامات المتبادلة.
في ضوء ذلك القطاع العام، بين من اضطروا للبحث عن مصادر دخل بديلة أو غادروا البلاد، وبين من سعوا للاحتفاظ بالوظيفة، مع الاعتماد على مصادر دخل إضافية، فيما آخرون وبالذات من المتقاعدين والأسر التي كانت تعتمد على مرتبات معيلين لها توفوا، تعيش في أوضاع معيشية مأساوية. إذ بالكاد، توفرابنة الثلاثين وفاء، ما يعين أطفالها الثلاثة بين 8 و12 عاماً، على مواصلة التعليم، من خلال ما تعود به لقاء أعمال منزلية تقوم بها لدى أقارب وجيران، إلى جانب حصول الأسرة على معونات إغاثية من حين لآخر، وكانت الأسرة تعتمد على راتب الأب المتوفي الذي كان يعمل جندياً في وزارة الداخلية، وتوفي خلال مهمة ميدانية منذ سنوات. تقول وفاء لـ"DW عربية"، إن مرتبه كان مصدر أمان احتياجات الأسرة لكن بتوقفه، الوضع من سيء إلى أسوأ.
الأكاديميون على الكفاف
هذا الوضع المعيشي المأساوي لمئات الآلاف من الأسر اليمنية، لم يستثن فئات وظيفية على درجة من الأهمية، كما هو حال الأكاديميين، الذين اضطر بعضهم إلى ترك الجامعة الحكومية، والالتحاق بمهن لا علاقة لها بمؤهلاتهم العلمية، لكن آخرين كما هو أستاذة الصحافة بكلية الإعلام بجامعة صنعاء، الدكتورة سامية الأغبري، يواصلون العمل، في ظروف صعبة للغاية.
وتقول الأغبري لـ DW عربية إن " انقطاع الراتب ادى لتدهور حالة الاستاذ الجامعي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فبالنسبة لي فإن انقطاع الراتب اثر على وضعي المعيشي"، إذ "بالكاد نعيش على الكفاف، ففي حالة المرض نضطر للاستدانة أو البحث عن مساعدة من الاصدقاء". بالإضافة إلى ذلك "حياتنا اصبحت مهددة، إذ نصرف ما نحصل عليه من شغل إضافي بقلق ونظل نفكر كيف سنتمكن من العيش بعد ذلك".
قضية منسية تعود إلى الصدارة
على الرغم من كونها، أكثر ما يجسد الكارثة الإنسانية الذي يعيشها اليمن منذ سنوات، ودفع الأمم المتحدة لتصنيفه لأعوام متتالية، كبلد يعيش أكبر أزمة إنسانية، إلا أن قضية الموظفين، ظلت بعيدة عن الحلول، وجعلت منها مادة اتهامات متبادلة بين الحكومة وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، حيث يحملون الأخيرة المسؤولية عن الأزمة، بسبب قرارها بنقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، فيما تقول الحكومة إن من يرفض دفع المرتبات هم الحوثيون الذين امتنعوا عن تسليم الواردات في مناطق سيطرتهم، بما في ذلك، عائدات الضرائب والجمارك والمشتقات النفطية، إلى المصرف المركزي، بما جعله عاجزاً عن دفع المرتبات في كافة أنحاء البلاد.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عادت قضية المرتبات إلى الواجهة، عندما منع الحوثيون تصدير النفط من مناطق سيطرة الحكومة وسط وشرقي البلاد، وهددوا باستهداف السفن، ما لم يحصلوا على عائدات من شأنها دفع المرتبات، ومؤخراً نشط حراك ديبلوماسي بين كل من العاصمة العُمانية مسقط (الوسيط مع أنصار الله الحوثيين)، وبين العاصمة السعودية الرياض التي تقود التحالف الداعم للحكومة المعترف بها دولياً، وعقد المبعوث الدولي إلى اليمن هانس غروندبرغ جملة من اللقاءات، تحدث على ضوئها عن وجود خيارات لحلول بشان القضايا العالقة، على وقع تسريبات وتكهنات تشير إلى أن دفع المرتبات ضمن مقترحات يجري بلورتها، دون أن تتضح ملامحها أو تحقق تقدماً كافياً للآمال بعد.
تضرر معظم فئات المجتمع
ويقول لـ DW عربية، الخبير الاقتصادي اليمني عدنان الصنوي إن "معظم فئات المجتمع متضررة من انقطاع الرواتب عن القوى العاملة في القطاع الحكومي، حيث اتجه معظمهم للبحث عن اعمال ووظائف لدى القطاع الخاص"، وهو ما انعكس بدوره على الشباب الخريج بالألاف من الجامعات والمعاهد والذين دخلوا في خانة العاطلين عن العمل، فأضافوا بذلك تكلفة اقتصادية واجتماعية بل وانسانية، مع اتجاه الكثير نحو الهجرة خارج البلاد والمحفوفة بالمخاطر والنزوح الداخلي بحثاً عن اعمال توفر لهم ولعائلاتهم ما يسد رمقهم.
جوهر المفاوضات الجارية
وبشأن الحديث الجاري عن اتفاق أو جهود للوصول إليه، يشدد الصنوي على أهمية إبقاء "الأمل، فهو زادنا للبقاء على قيد الحياة"، ويرى أن المفاوضات للتوصل الى حل، من واقع تغيرات المنطقة، بات خيار الجميع "فثمان سنوات من الصراع لم تمكن احد من السيطرة ولم تحقق الا المزيد والمزيد من الالم والجراح".
ويضيف أنه "في حال تم التوصل لاتفاق فأكيد ستكون اول البنود المطروحة انتظام صرف المرتبات لأن هذا الموضوع هو النقطة الحساسة في جوهر المفاوضات الجارية". على أن عودة صرف المرتبات سيمثل شريان حياة، يساعد معظم الاسر على استعادة قدرتها الشرائية ولو بالتدريج، ما سيعمل "على عودة النشاط التجاري الى زخمه والذي بدوره يعزز عودة الكثير من المشاريع خصوصاً الصغيرة والمتوسطة والتي تضررت بشكل كبير جراء انقطاع المرتبات".
قضية إنسانية بالدرجة الأولى
على ذات الصعيد، يذهب رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مصطفى نصر إلى أن دفع مرتبات الموظفين بأقرب وقت ممكن، إلى جانب كثير من القضايا الإنسانية كفتح الطرق والمطارات والموانئ"، مسألة إنسانية بالدرجة الأولى ويفترض أن تُعامل بعيداً عن أي تسييس".
ويشدد نصر في حديثه لـDW عربية، على أهمية أن يكون هناك تهيئة لهذه العملية تتمثل بتوحيد العملة ووضع سياسة نقدية موحدة، وبالتالي "تسليم هذه المرتبات لكافة الموظفين العاملين في إطار الوظيفة العامة بالتساوي ما يضمن العدالة في توزيعها"، وبذلك فإن "هذه الخطوة فعلا تكون واحدة من الخطوات المهمة والرئيسية في بناء السلام أو استعادة مسار السلام في اليمن والبدء بحل المشكلات التي هي اعقد من موضوع تسليم المرتبات وغيرها من الملفات الانسانية".
وتواصلت DW عربية، مع مسؤولين حكوميين في كل صنعاء وعدن، للحصول على تعليق بشأن التقدم في المفاوضات، إلا أنها لم يحصل على رد.
صنعاء ـ صفية مهدي