لامبيدوزا اليوم.. وضع كارثي يعيشه المهاجرون
٢٦ أكتوبر ٢٠٢١من الجو، لا يخيل للمسافر أن تلك المساحة الصخرية الصغيرة في المتوسط هي جزيرة لامبيدوزا. مع اقتراب الطائرة من المدرج، تتماثل المنازل الملونة المنتشرة على الجزيرة الهادئة، لتشكل مع الخلفية الزرقاء للمتوسط لوحة جميلة تتداخل ألوانها وتبعث على الهدوء بشكل سريع.
تلك الصورة التي تحاول الجزيرة إعادة رسمها اليوم، لم تكن نفسها لسنوات خلت، فلامبيدوزا السياحية صحت قبل بضعة سنوات لتجد نفسها على خارطة طرق الهجرة ومآسي المهاجرين واستنفار العالم لمواجهة تدفقاتهم الكبيرة.
لسنوات، ظلت الجزيرة عنوانا في وسائل الإعلام العالمية يختصر وراءه أخبارا عن توافد المهاجرين وغرق بعضهم واكتشاف حطام قوارب بمحاذاة شواطئها. السكان حينها (حوالي خمسة آلاف نسمة) حاولوا الانخراط في أنشطة مساعدة "اليائسين" الذين رأوا في شواطئهم ملاذا من الحروب والاضطهاد والفقر. لكن مع الوقت، بدأت الصورة تتغير وملامح تضامن السكان تفتر. الجزيرة تحولت إلى مركز استقبال كبير، أعداد المهاجرين الواصلين تخطت قدرة السلطات المحلية على التحمل، وبدأت الجزيرة تخوض فصلا جديدا من حكايتها، الفصل غير السياحي.
عبء الهجرة انعكس على اقتصاد السكان المحليين فارضا مرحلة معقدة، شعرت خلالها السلطات بالخطر وبالعجز. السياحة تراجعت، ومعها المداخيل الموسمية التي كانت تؤمن للمقيمين قوتهم خلال الشتاء. أندريا، شاب إيطالي يعمل مديرا لأحد المنتجعات السياحية الصغيرة على الجزيرة، قال لمهاجر نيوز إن تلك السنوات العجاف "ساهمت بإفراغ الجزيرة من الكثير من الشبان. توجهوا إلى البر الإيطالي بحثا عن فرص عمل ولو بأجور زهيدة ليتمكنوا من العيش. ثم جاءت أزمة جائحة كورونا لتجهز على ما تبقى من اقتصاد موسمي هش أصلا".
اقرأ أيضا: وزير داخلية إيطاليا السابق أمام المحكمة بسبب إعاقة رسو سفينة لاجئين
الشاب تحدث عن حركة سياحة خجولة خلال السنتين السابقتين للجائحة، "كان السياح يسألوننا عن المهاجرين ومراكزهم وأسباب تواجدهم في الشوارع. أي منا لم يملك أجوبة على ذلك الوضع. الغضب تصاعد في أوساط السكان على الحكومة وعلى الحال العام. لا أحد على الجزيرة يكره المهاجرين، لكن السكان طفح كيلهم من آليات معالجة الأزمة. كنا نرى مدى التخبط الذي كانت تمر به الأجهزة المعنية، وكنا نحن مَن يدفع الثمن".
صورة الجزيرة قبل سنوات تغيرت جذريا اليوم، شوارعها باتت فارغة تماما من المهاجرين، مع اعتماد السلطات آلية تقضي بإرسال الوافدين مباشرة إلى مركز الاستقبال الذي بات مغلقا تماما بفعل الجائحة، ثم يتم نقلهم إلى العبارات الراسية قبالة الجزيرة ليمضوا فترة أسبوعين قيد الحجر الصحي قبل أن ينقلوا إلى صقلية (الجزيرة الأكبر والأقرب إلى لامبيدوزا).
لغز انسحاب المنظمات غير الحكومية
إيجاد تفاصيل عن ملف الهجرة في الوقت الحالي في لامبيدوزا بات مهمة صعبة، خاصة في ظل انسحاب معظم المنظمات الإنسانية المحلية والدولية من هناك لأسباب لم نتمكن من معرفتها لغاية إعداد هذه الورقة. منظمة "أمل المتوسط" (Mediterannean Hope) قد تكون المنظمة غير الحكومية الوحيدة التي مازالت تعمل على الجزيرة. جيوفاني دامبروزيو، العضو في المنظمة، قال لمهاجر نيوز إن الجائحة أثرت أيضا على عملها مع المهاجرين، "في السابق كانت مراكزنا مفتوحة، نستقبل المهاجرين فيها خلال النهار ونقدم لهم كافة الخدمات التي يمكننا توفيرها. لكن مع الجائحة وإجراءات إغلاق مركز الاستقبال، لم نعد نرى أيا منهم. فقط عند وصولهم إلى الشاطئ، نهرع إلى هناك لتقديم الإسعافات الأولية لهم ومواد إغاثية أولية، كما لدينا فريق متخصص باستقبال الأطفال والتعامل معهم عند اللحظات الأولى. لكن لاحقا يتم نقلهم إلى مركز الاستقبال ومنه إلى عبارات الحجر ومنها إلى صقلية".
العضو في المنظمة التابعة لاتحاد الكنائس البروتستانتية، أورد أنهم حاليا يعملون مع مجموعات "من المجتمع المحلي على مشاريع تساعدهم على فهم قضية الهجرة واكتساب تعاطفهم مع المهاجرين. السكان على الجزيرة طوروا علاقة معقدة مع المهاجرين. هم لا يكرهون المهاجرين، كما أنهم لا يريدون تصوير جزيرتهم على أنها مركز استقبال كبير. الكثير من السكان يؤمنون أن جزيرتهم لا يمكن أن تكون حلا، وأن على الحكومة بذل المزيد من الجهود لتخطي الأزمة. لا أعتقد أن هناك أزمة هجرة على الجزيرة، بل هناك أزمة إدارة لذلك الملف".
جيوفاني تحدث عن ارتفاع مضطرد لأعداد المهاجرين الواصلين إلى لامبيدوزا، ففي أيلول/سبتمبر الماضي وصل أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر، 80% منهم جاؤوا من ليبيا. وأورد أنه منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر الحالي، وصل 1180 مهاجرا، معظمهم من تونس أيضا.
وكانت أعداد المهاجرين التونسيين قد ارتفعت بشكل ملحوظ مؤخرا، ربما بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد. فبحسب تقديرات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وصل 13 ألف تونسي إلى السواحل الإيطالية في عام 2020. في حين ذكرت الداخلية الإيطالية أن عدد الذين وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2021 كان أكثر بثلاثة أضعاف من رقم العام الماضي.
وافدون بشكل متواصل
ليلة الأحد 17 تشرين الأول/أكتوبر، وصل العشرات من المهاجرين إلى ميناء "نويفو بورتو" على متن زوارق تابعة لخفر السواحل الإيطالية. لم يكن من السهل معرفة ما يجري معهم على الميناء من بعيد، فعمليات إنزال المهاجرين باتت تتم ضمن منطقة مغلقة في الميناء، لا يسمح سوى للعناصر الأمنية بدخولها.
من على مرتفع مطل، كان يمكن مشاهدة المهاجرين وهم ينزلون من زورق خفر السواحل، بعد قليل تبدأ انعكاسات الضوء المتلألئة على بطانيات النايلون التي التحف بها المهاجرون اتقاء من البرد تنعكس من الرصيف. نحو نصف ساعة مرت تلقى خلالها المهاجرون الإسعافات الأولية قبل أن يتم نقلهم بواسطة حافلات إلى مركز الاحتجاز.
كما وصلوا بصمت، سارت بهم مواكب الحافلات التي ترافقها سيارات الشرطة بصمت، مرورهم بالوسط التجاري للمدينة كان خفيفا وغير مثير للانتباه. من خلف زجاج الحافلات كان يمكن رؤية وجوه تغطيها الكمامات الصحية، ونظرات فارغة، وكأن أصحابها ينظرون في المجهول. "مروا بتجربة عصيبة، لا يمكنني أن أتخيل صعوبة ظروفهم والرعب الذي مروا به"، يقول ماوريتزيو، نادل يعمل في أحد المقاهي في المنطقة.
ماوريتزيو كان من بين القلائل الذين انتبهوا لمرور الموكب، لكن الحياة بالنسبة إلى هؤلاء مستمرة، ما هي إلا لحظات سريعة حتى عاد الجميع إلى سهرتهم.
مشهد تلك المواكب يختصر الكثير من المفاهيم حول الهجرة والرغبة بالحياة في بلدان يمكن للإنسان أن يشعر بكينونته فيها، لكن المهاجرون لا يعرفون ما الذي ينتظرهم على المقلب الآخر.
ووفقا لوسائل إعلام محلية على الجزيرة، وصل بين ليلتي الأحد والإثنين نحو 350 شخصا على متن 14 قاربا، واحد فقط جاء من ليبيا وكان على متنه رجال وأطفال من السنغال وبنغلادش ومصر. أما القوارب الـ13 الأخرى فجاءت من تونس وحملت على متنها تونسيين وإيفواريين وغينيين وكاميرونيين.
حمامات قذرة وطعام لا يؤكل ومعاملة سيئة
تواجه السلطات الإيطالية اتهامات باستخدام سياسة الاحتجاز، خاصة للتونسيين الواصلين بشكل غير شرعي، من أجل ردع المزيد عن القدوم، على غرار ما تقوم به الحكومة الأمريكية مع العائلات والمهاجرين القادمين من أمريكا اللاتينية والحكومة الأسترالية التي تسجن عائلات اللاجئين وأطفالهم في منشآت برية وبحرية.
باسم، مهاجر تونسي متواجد على البر الإيطالي منذ نحو ثلاثة أسابيع، شرح لمهاجر نيوز جزءا من المعاناة التي مر بها وغيره من المهاجرين الذين كان عليهم إمضاء وقت في مركز الاحتجاز في لامبيدوزا. قال باسم "المركز مكون من سلسلة من الزنازين المرصوفة بجانب بعضها، وهو محاط بأسوار عالية. الطعام سيء جدا، معظمنا لم يكن يتناول شيئا مما كانت السلطات توزعه علينا... والمراحيض هناك كريهة للغاية، القذارة تغطيها وهي بلا أبواب. النساء المهاجرات كن أكثر من عانى هناك، إذ تخشى كل منهن دخول الحمام أولا لقذارته وثانيا لانعدام الخصوصية. الرجال والنساء يستخدمون الحمام نفسه".
أما عن موضوع اختبارات كورونا ومدى تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، أكد باسم أن أيا من تلك الإجراءات لم يطبق إلى حين مغادرته، "لم نكن نعلم من المصاب، وإذا كانت الأعراض تظهر على واحد منا، لا يتدخل المسؤولون لحجره أو إبعاده عن المجموعة".
مازال في جعبة الجزيرة المزيد
لكن القصة في لامبيدوزا لا تنتهي هنا، فهي بالكاد قد بدأت بالنسبة إلى المهاجرين أو حتى السكان المحليين.
ماريا، موظفة في أحد فنادق الجزيرة، قالت لمهاجر نيوز إنها مع كل صباح تضطر لاستذكار مشاهد المآسي في المرفأ المقابل لمنزلها، "في الماضي كنت أشعر بالامتنان كوني أسكن هناك. كنت أعشق إطلالة الصباح على الشرفة وأمامي قوارب الصيادين وأصواتهم وضحكاتهم تصل من بعيد. اليوم علي أن أشاهد حطام قوارب المهاجرين بكل تفاصيلها وصدئها وطلائها البالي، علي أن أسترجع صراخ هؤلاء المساكين يوميا ومشاهد الأمهات وهن يحملن أطفالهن ويحاولن حمايتهم من المياه المالحة وبرد الهواء".
في ميناء الجزيرة الرئيسي، كدست السلطات القوارب البالية التي استخدمها المهاجرون لعبور المتوسط. مشهد تلك القوارب يبعث على القشعريرة، أجسام حديدية أو خشبية كانت تحمل أعدادا ضخمة من البشر، مكدسة فوق بعضها إما على بطونها أو على سطحها. واحد من عمال المرفأ أشار إلى أحد تلك الزوارق، لا يزيد طوله عن 20 مترا، وقال إنه كان يحمل 320 شخصا.
القوارب متروكة على رصيف الميناء، تتآكل بسبب الأمواج التي تتقاذفها ومياه البحر المالحة، بداخلها بقايا من ملابس وعبوات بلاستيكية وسترات نجاة... ظلال مآسي مخزنة بين جدرانها بانتظار من يكشف عنها النقاب ليحكي قصتها.
قبور المجهولين
بجانب المرفأ يقع متحف لامبيدوزا الأثري، الذي خصصت السلطات المحلية جزءا منه للهجرة، يعرض مقتنيات أشخاص وصور قطع من مراكب غرقت. في نهاية المعرض، غرفة مظلمة يعرض فيها فيلم عن مآسي المهاجرين في البحر وجهود الإنقاذ. يمكن أن ترى رجال خفر السواحل الإيطالي يبكون، أو مهاجرين عالقين تحت أبدان القوارب التي قفزوا عنها ونظرات الموت على وجوههم تكاد تخترق الشاشة. قوارب غارقة وبداخلها جثث أطفال ونساء ورجال، بعضهم كانت البسمة تعلو محياهم، ربما هي بسمة الأمل بنهاية عذاباتهم، ولكن ليس بالطريقة التي حلموا بها.
الفيلم قاس جدا، لكنه لا يختصر ما تحمله تلك الجزيرة من أوجاع.
على المقلب الآخر من الميناء وداخل المقبرة، تتوزع عدة مدافن مجهولة الهوية لمهاجرين غرقوا أثناء عمليات الإنقاذ أو لفظتهم أمواج البحر على شواطئ الجزيرة. "الاسم: مجهول، العمر: بين 20 و30 عاما، الجنس: أنثى، الجنسية: مجهولة، البشرة: سوداء، تاريخ الدفن..."، العبارات السابقة دوّنت على معظم تلك القبور. بعضها بات غير واضح لكون الجثث التي تحويها دفنت منذ مدة طويلة.
في بقعة وسط المقبرة، تجد نصبا لمقدّمة قارب خشبي رفعت على مجسم إسمنتي، يجسد قوارب الموت التي يستقلها المهاجرون. خلف النصب، عدد من الشواهد لقبور أصحابها مجهولو الهوية. فقط قبر واحد يحمل اسم صاحبه وعمره، هو قبر الطفل يوسف علي كنّه، إثيوبي الجنسية، قضى في غرق القارب الذي كان على متنه في 26 نيسان/أبريل 2020 أثناء فراره وعائلته من الجحيم الليبي. أما الأطفال والنساء والرجال الآخرون، شركاء يوسف في تلك البقعة، فدفنوا دون هوية تُعرف.
قبور المهاجرين زادت من هيبة صمت المقبرة. ثقل من نوع آخر، ثقل لا يمكن انتزاعه من نفس الزائر بسهولة، يصور بشاعة العالم وقسوته، ويحول البحر إلى بئر مخيفة لقصص رعب اللحظات الأخيرة لهؤلاء. قبور المهاجرين المجهولين ستبقى في مقبرة لامبيدوزا، وسيستمر حارس المقبرة بالاعتناء فيها، إلى أن تجد أقارب أو عائلة أو أصدقاء، أو أن تذوي مع السنوات وتتحول إلى أطلال تنتظر من قد يهتم بالكشف عنها ويعيد حكاية قصتها.
المصدر: مهاجر نيوز