كيف ينظر العرب إلى الماضي الألماني الشائك؟
يتجدد ظهور الماضي الألماني النازي على السطح بمناسبة الاحتفال بمرور 60 عاماً على تحرير معسكر "أوشفيتس" وإحياء ذكرى ضحايا المحرقة التي ارتكبتها النازية. الأمر الذي يطرح موضوعاً شائكاً، ليس فقط للألمان أنفسهم، ولكن أيضاً للعرب والمسلمين عامة وخاصة المقيمين منهم في ألمانيا، إذ عادةً ما يختلط الحديث عنه بالكثير من سوء الفهم بين الطرفين. ترجع صعوبة التواصل مع هذا الموضوع بدرجة كبيرة إلى القضية الفلسطينية، فكثير من العرب المسلمين يشعرون بأولوية المأساة الفلسطينية في الوقت الحاضر، ويستحوذ عليهم إحساس بالظلم الشديد وهم يتابعون تفاصيل الأحداث يومياً، لذلك لا يشاطر جزء منهم الألمان في إحساسهم المفرط بالحزن. وفي المقابل لا يستطيع المجتمع الألماني استيعاب الموقف العربي الإسلامي، فجرائم النازية هي جرائم في حق البشرية جمعاء، وهي لم تقتصر فقط على الشعب اليهودي بل طالت أيضاً المعارضين واليساريين والغجر والمعوقين والمثليين وغيرهم. ويتمسك الألمان بقواعد ديموقراطيتهم الحديثة التي قامت على الإحساس التام بالمسؤولية عن الجرائم التي ارتكبها النظام النازي، والرغبة الشديدة في إحداث قطيعة كاملة مع أشباح الماضي البشعة. موقع دويتشه فيلله باللغة العربية قام بعمل لقاءات مع بعض العرب والمسلمين المقيمين في ألمانيا، محاولةً منه للاقتراب من هذا الموضوع الشائك.
العداء للسامية يهدد المسلمين تماماً كما يهدد اليهود
عندما أحيت برلين ذكرى ضحايا معسكر "أوشفيتس" بحفل رسمي حضره كبار الشخصيات العامة لم توجه الدعوة لمجلس المسلمين في ألمانيا، ويعلق السيد "علي كايا" رئيس المجلس الذي يضم عدداً كبيراً من المسلمين من مختلف البلاد، ويأخذ على عاتقه تقديم الرعاية الثقافية والاجتماعية والدينية للجالية المسلمة، يعلق على ذلك الحدث بقوله "لو كانت الدعوة وجهت لنا لما امتنعنا عن المشاركة في الاحتفالية، فمأساة المحرقة (الهولوكوست) لا تقتصر على الشعب اليهودي فقط. غير أن الدعوة لم توجه إلينا". ويعتبر السيد "علي كايا" المحرقة نتاجاً للعداء للسامية في أبشع صورها، ويتابع قائلاً "نحن كمسلمين نعيش في ألمانيا معرضين لخطر هذا العداء مثلنا مثل اليهود. فالكراهية لا تفرق بين دين وآخر، لذلك علينا أن نتحد في محاربتنا لهذا الخطر".
الطبيب "شريف عبد الرؤوف" يتفق مع رئيس مجلس المسلمين في شعوره بالأسف على ضحايا المحرقة التي تمثل قمة الظلم من وجهة نظره. ومن ناحية أخرى يستطيع أن يتفهم وجهة نظر من يربطون بين القضية الفلسطينية وبين المحرقة النازية ويقول: "إننا نرى كل يوم العذاب الذي يتعرض له الفلسطينيون ولا أحد يتحرك لإنقاذهم، بينما آلام الآخرين يُحتفل بها، الناس تتساءل لماذا هم ونحن لا؟". ويضيف: "أعتقد أن الدولة الإسرائيلية قامت بإساءة استخدام المحرقة لاستدرار العطف وتحقيق مكاسب سياسية". على عكس ذلك لا يعتقد السيد "علي كايا" بصحة الربط بين الموضوعين ويعلق قائلا: "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو صراع سياسي في المقام الأول، يتعلق بالصراع على الأرض، أما المحرقة فهي محصلة الكراهية والعنصرية التي تصبها الأغلبية على أقلية في المجتمع. لكن هذا لا يمنعنا من انتقاد سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة وهي من وجهة نظرنا سياسة خاطئة".
مأساتان
"محمود البياتي " طالب يدرس في ألمانيا يقول إن معلوماته حول موضوع المحرقة كانت سطحية وبسيطة قبل مجيئه إلى ألمانيا، ويعبر عن عدم اكتراثه بالتفاصيل المتعلقة بهذه المأساة قائلاً: "الاضطهاد الإسرائيلي للشعب الفلسطيني يقف حائلاً في معظم الأحيان أمام اهتمامي بهذه المأساة". غير أن إقامته في ألمانيا ومشاهدته للمعارض المختلفة وزيارته لبعض معسكرات الإبادة ساعدته في تكوين صورة أوضح حول فترة النازية والمحرقة، ويقول: "أستطيع الآن أن أفصل بين اليهودية كديانة وبين إسرائيل كدولة. لقد تعرفت في ألمانيا على يهود من بلاد مختلفة، ساعدتني معرفتهم على التفريق والفصل بين اليهودي والإسرائيلي المحتل".
ثم يتحدث "البياتي" عن ظاهرة العداء للسامية التي تُلصق اليوم بالعرب بشكل مجاني قائلاً: "من وجهة نظر تاريخية العداء للسامية ظاهرة أوروبية، نشأت وانتشرت في كل أوروبا منذ قرون، ليس فقط في ألمانيا. وإذا نظرنا إلى الثقافة العربية فلن نجد كراهية منظمة ضد اليهود كما ظهرت في الثقافة الأوروبية، لقد كان أجدادي يعيشون في قرية واحدة مع اليهود حتى أربعينات القرن العشرين".
إمكانيات التبادل الثقافي
ثم كان لنا لقاء مع يوسف حجازي من مؤسسة "مدار" التي تُعنى بالتبادل الثقافي بين المناطق الناطقة بالألمانية والمناطق الناطقة بالعربية. وتعليقاً على الربط بين القضية الفلسطينية وبين المحرقة النازية يقول: "الربط غير صحيح، فإحياء ذكرى المحرقة لا يتعارض مع إحياء ذكرى جرائم أخرى عانى منها العرب، فليس هناك مقارنة بين الجرائم ولكن لكل جريمة تمايزها، ومن حق من عانى أن تُحيى ذكراه. بالمناسبة الفلسطينيون كان لهم قراءة مختلفة وهي أن الحركة الصهيونية استطاعت أن تجيّر الجرائم النازية والمحرقة من أجل استقطاب أكبر عدد من اليهود وتوطينهم في فلسطين قبل إنشاء دولة إسرائيل، وهي قراءة تفصل بشكل جذري بين اليهودية كديانة والصهيونية كحركة سياسية".
من المظاهر المتكررة دورياً على الساحة السياسية الألمانية تفجر سجالات حادة بين سياسيين بسبب انتقاد سياسة إسرائيل، إذ سرعان ما تظهر تهمة العداء للسامية في الأفق. وعلى ذلك يعلق السيد "يوسف حجازي" قائلاً: "يخلط الألمان بسبب حساسيتهم الشديدة الناتجة عن مسؤوليتهم التاريخية بين نقد الصهيونية ونقد السياسة الإسرائيلية والعداء للسامية، فأي نقد يوجه للحركة الصهيونية أو إسرائيل يترجم على الفور كعداء عنصري ضد اليهود".
برغم التعقيدات الواضحة التي تحيط بمسألة الحوار العربي الألماني إلا أن القيام بمثل هذا الحوار ليس مستحيلا. السيد "يوسف حجازي" يصف تجربته في التبادل الثقافي قائلاً: "التبادل الثقافي هو جسر نسير عليه في اتجاهين، ومؤسسة "مدار" تُعنى في المقام الأول بالتبادل الفكري والثقافي والفني، وعندما يحدث تماس مع معضلة سياسية كالمحرقة النازية نؤكد مع شركائنا العرب على عدم تقزيم المحرقة أو مقارنتها بمذابح أخرى انطلاقاً من أن لكل مأساة خصوصيتها، ولحساسية هذه المقارنة في المانيا. ومن ناحية أخرى نسعى مع شركائنا الألمان ألا ينظروا إلى الموقف العربي من وجهة النظرالألمانية بل العربية، فالألماني ينطلق من موقع الجاني، بينما العربي ينطلق من موقع الضحية".
هيثم الورداني