كيف دخل الحلم بدولة كردية في العراق نفقاً مظلماً؟
٢٠ ديسمبر ٢٠١٧يبقى الملف الكردي من أكثر الملفات حساسية في منطقة الشرق الأوسط؛ فحلم الدولة الكردية المستقلة ما يزال يداعب مخيلة الأكراد على امتداد وجودهم الجغرافي في تركيا والعراق وسوريا وإيران وبدرجة أقل في أرمينيا. وجاءت التطوّرات المتسارعة في العراق مؤخراً لتقلب الكثير من المعادلات، خاصة بعد تجميد نتائج الاستفتاء.
وقبل أيام فتح مقتل وإصابة محتجين برصاص القوات الأمنية المحلية في محافظة السليمانية بالإقليم، خلال مظاهرات احتجاجية على سوء الأوضاع المعيشية، الجدل حول ما يجري في إقليم كان يحمل قبل أسابيع حلماً بالانفصال عن بغداد.
ثقل التاريخ
تشير إحصائيات رسمية عراقية إلى أن عدد سكان إقليم كردستان، في شمال العراق، يصل إلى 5 ملايين نسمة من أصل 36 مليون عراقي، فضلاً عن 1.5 مليون ساكن في كركوك. صراعهم من أجل دولة مستقلة يعود إلى بدايات القرن العشرين، إذ كان هناك تصوّر لدولة كردية بين الحلفاء المُنتصرين على الدولة العثمانية، لكن لم يتحقق هذا التصور. لذلك ثار الأكراد ضد الانتداب البريطاني أولاً، وبعد ذلك ضد حكومة بغداد.
أعلن "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، القتال المسلح عام 1961، واستمر ذلك حتى عام 1970 عندما وُقعت اتفاقية للحكم الذاتي بين بغداد والأكراد، سرعان ما انتهت ليستأنف القتال بعد ذلك. وقد عمد النظام العراقي إلى توطين عرب في بعض المناطق الكردية وتوطين أكراد في مناطق أخرى حتى يتم تغيير التركيبة السكانية.
يحتفظ الأكراد بذكريات مريرة من القمع الذي ووجهوا به من لدن صدام حسين، خاصة ما يعرف بحملة الأنفال في نهاية الثمانينيات، التي يبقى قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية أحد أكبر فصولها قتامة. زادت شراسة القمع بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، لكن فرض منطقة حظر جوي في شمال العراق مكّن الأكراد من فرض الحكم الذاتي، خاصة بعد عودة اللاجئين النازحين. استمر هذا الوضع حتى عام 2003، عندما أطاحت القوات الأمريكية والبريطانية بصدام بمساعدة كردية. وبعد تحقيق مرادهم، أضحى الأكراد رقما أساسياً في المعادلة السياسية العراقية، إذ شاركوا في رئاسة البلد وحكومته وبرلمانه.
خلاف متجذر مع بغداد
استفاد الأكراد من قوتهم العسكرية ودعم الطيران الأمريكي لأجل تحقيق نصر كبير على تنظيم "داعش" بعد أن اجتاح الاخير مناطق شاسعة في الإقليم وتابعة للحكومة المركزية بدءاً من عام 2014. ومع تعاظم نفوذهم العسكري، كبرت طموحاتهم في دور سياسي أكبر، لا سيما بعد سيطرتهم على محافظة كركوك الغنية بالنفط (قدرة إنتاجية تصل إلى ما بين 750 ألف ومليون برميل يومياً). طموح السياسيين الأكراد تعاظم نظراً لاستمرار المشاكل الداخلية بالعراق، إذ اقتنع جزء كبير منهم أن ليس عليهم البقاء مع حكومة تعاني في بسط سيطرتها الأمنية.
وتعدّ المادة 140 من الدستور العراقي أكبر نقاط الخلاف بين أربيل وبغداد، ذلك أنها تعتبر كركوك وعدة أراض في محافظات نينوى وديالي وصلاح الدين مناطق "متنازع" عليها. وتضع المادة ثلاث مراحل لحل الخلاف تنتهي بإجراء استفتاء قبل نهاية عام 2007، لكن انتهاء هذه المهلة دون تنظيمه أثار مزيداً من الجدل، لا سيما وأن سيطرة المقاتلين الأكراد على هذه المناطق، أدت برئيس إقليم كردستان العراق، مسعود برزاني، يعلن أن المادة انتهت.
وممّا ساهم في تفجير العلاقة بين الطرفين، رفض إقليم كردستان أن تكون قواته المسلحة "البيشمركة" تحت لواء الحكومة العراقية، إذ ترى قيادة الإقليم أن بغداد لم تساهم أو تساعد في تكوين وتدريب هذه القوات. كما تعدّ المسائل العرقية والدينية أحد أكبر معالم الخلاف، خاصة مع اعتماد الحكومة العراقية على قوات الحشد الشعبي المكوّنة أساساً من تنظيمات شيعية مسلّحة. وأدت كل الأسباب مجتمعة إلى إجراء الإقليم استفتاء لتقرير المصير، ردت عليه بغداد بهجوم مضاد استعادت من خلاله أغلب المناطق المتنازع عليها.
بارزاني وطالباني.. مصالح متضاربة
ليس الأكراد في شمال العراق على قلب رجل واحد، فالخلاف مستعر بين الجانبين، وتعود جذوره إلى سنوات التسعينيات عندما وقعت حرب أهلية بين قوات "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بقيادة مسعود بارزاني، و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بقيادة جلال طالباني انتهت باتفاق سلام عام 1998. ومن الأمور المثيرة للمفارقة، أن برزاني، الراغب باستقلال كردستان، كان قد حصل على دعم عسكري من صدام حسين حتى يستعيد أربيل من قبضة طالباني.
ولا يزال كردستان مقسمة بين الطرفين، إذ توجد قوات الاتحاد الوطني أكثر في السليمانية، بينما يتقوى نفوذ بارزاني في أربيل ودهوك. ورغم أنه من الناحية النظرية يتفق الجانبان على موقف موّحد ضد بعض توجهات بغداد، إلّا أنه كان واضحا أن الكثير من الوجوه البارزة في السليمانية لم تتحمس كثيراً للاستفتاء، كآلاء طالباني، رئيسة كتلة الاتحاد الديمقراطي -استقالت مؤخراً، إذ عبرّت عن رفضها الصريح للاستفتاء، كما رفضته قوى أخرى في الإقليم ككتلة التغيير الكردية (حركة غوران)، القوة الثانية في برلمان الإقليم.
وزادت التحديات الاقتصادية في عمق الصراع الداخلي الكردستاني، إذ يتساءل الكثير من سكان الإقليم عن مصير أموال إيرادات النفط المرتفعة التي جنتها السلطة منذ البدء في تصدير النفط الخام إلى الخارج عام 2009 بمعدل وصل عام 2017 إلى 600 ألف برميل يومياً، خاصة مع التأخر الحاصل في سداد رواتب الموظفين، واستمرار معاناة الحكومة المحلية من العجز المالي.
كما باتت حكومة كردستان العراق تعاني من الاتهامات ذاتها التي كانت توجهها إلى حكومة بغداد بوجود تمييز عرقي، إذ كشفت "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية أن القوات الكردية منعت لأشهر العرب من العودة لديارهم في شمال العراق بعد طرد "داعش"، وقالت إنها دمرت منازلهم واعتقلت أعداداً منهم لفترات طويلة. ولهذه الأسباب كان القوى العربية في كركوك من أشد الرافضين للاستفاء، إلى جانب القوى التركمانية، إذ يساند الاثنان وحدة العراق تخوفاً من تعرضهم "للتميز والتهميش".
من يكسب الصراع؟
كان الكثير من المتتبعين يتوّقعون أن تقع معارك عنيفة بين البيشمركة وقوات الحكومة العراقية حول المناطق المتنازع عليها، لكن على العكس، انهارت قوات الأكراد بشكل سريع خلال ساعات.
الانهيار السياسي وصل إلى الرئيس مسعود برزاني، الذي لاحقته اتهامات متعددة بمحاولة استغلال ورقة الاستفتاء حتى يستمر في منصبه الذي وصل إليه عام 2005، إذ أعلن تنحيه بعد انتقادات كبيرة من قوى كردية كما جاء على لسان القيادي المعروف، برهم صالح الذي طالب بحكومة كردية مؤقتة، وبتجميد نتائج الاستفتاء حتى إجراء حوار مع بغداد.
حاولت قوات البيشمركة أن تدفع عن نفسها أيّ محاولة لاتهامها بتحالف سري مع بغداد بالانسحاب السريع، لذلك رمت المسؤولية على عدة أطراف أخرى، منها اتهامها لمسؤولين في "الاتحاد الوطني الكردستاني" بالخيانة وإخلاء مواقع حساسة لقوات الحشد الشعبي. اتهامات تؤكد عمق الشرخ الموجود بين السليمانية وأربيل وهو ما بينته مقاطع الفيديو المتناقضة، بين مشاهد احتفالات بإنهاء سيطرة البيشمركة ومشاهد أخرى تظهر حزناً على هذه الخسارة.
تداعيات تجميد مشروع الدولة الكردية تصل إلى التحالفات المتوقعة في خارطة الانتخابات المنتظرة، فالقوى الكردية الرافضة للاستفتاء، ككتلة التغيير الكردية، أكدت أنها لا تزال محافظة على العلاقة مع بغداد، فيما تُطرح أسئلة حول مصير الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يعاني حالياً صدمة كبيرة قد تؤثر حتى على حضوره في البرلمان العراقي، لا سيما وأن برزاني كان متقلب المواقف، إذ كان مقرباً من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في بعض الفترات.
إسماعيل عزام