قراءة في كتاب: إغلاق عقل المسلم
٢١ مارس ٢٠١٣التقيت بالمؤلف في مؤتمر روما لإصلاح الإسلام في نهاية العام الماضي، ومن خلال محادثاتي معه، و قراءتي لكتابه فيما بعد، عرفته خبيراً موسوعيا في تاريخ الإسلام، مع فهم عميق للعقل العربي والإسلامي بصورة خاصة. لذلك، رأيت من المفيد تقديم عرض لهذا الكتاب القيم، لفائدة كل من له اهتمام بالمشكلة التي تعرض لها المسلمون والعالم من الإرهاب.
يرى المؤلف أن سبب الإرهاب الإسلامي اليوم لم يكن جديداً، وليس لأسباب اجتماعية مثل الفقر..الخ، وإنما لخلل أصاب عقل المسلم كنتيجة لسلسلة من التطورات حصلت في الفكر الإسلامي، بدأت في القرن التاسع الميلادي، وقد وصل إلى ما هو عليه اليوم كنتيجة حتمية لهذه العقلية. لذا فيتتبع المؤلف جذور المشكلة منذ بداية ظهور الإسلام، مع التركيز على التطورات الفكرية في العصر العباسي.
يقول المؤلف في المقدمة، أنه يبحث في واحدة من أعظم الدراما في التاريخ البشري، مسرحها عقل المسلم، وكيف تعامل السلف من فقهاء الإسلام مع العقل، خاصة بعد تعرضه للفكر اليوناني في عهد الخليفة العباسي، المأمون، العملية التي يسميها بـ(Helenization of Islam)، أي تلقيح الثقافة الإسلامية بالفلسفات اليونانية (الهيلينية) القديمة، وبالأخص فلسفة أرسطو، كما حصل للمسيحية في أوربا.
"لماذا لم يشهد العالم الإسلامي نهضة تشبه نهضة العالم المسيحي؟"
و يسأل المؤلف: لماذا لم تحصل النهضة في العالم الإسلامي بعد كبوته على غرار ما حصل للغرب حيث النهضة الأوربية؟
يؤكد المؤلف على أن السبب هو تعطيل دور العقل في العالم الإسلامي،فالإنسان يتمتع بغريزة حب الاستطلاع، الفضول curiosity، وكسب المعرفة، واكتشاف أسرار الطبيعة، وإخضاع كل شيء للسؤال، وتوسيع مداركه بالمعارف، ولولا هذا الفضول عند الإنسان لما حصل هذا التقدم الحضاري والعلمي، والاكتشافات والاختراعات، ولبقي الإنسان بدائياً همجياً إلى الأبد. ولكن من الجانب الآخر، يرى الكاتب أن إعمال العقل في البحث والتنقيب والمناقشة والمحاجة، يؤدي بالتالي إلى زعزعة الإيمان الديني الموروث من الآباء.
وهنا يسأل المؤلف: هل من غرابة بعد كل هذا الجمود وإغلاق العقل، أن تصدر فتاوى عجيبة وغريبة مثل فتوى إرضاع الكبير؟ وعليه فلا عجب في انتشار الإرهاب.
"إن شعباً يحرم نفسه من الأفكار الحديثة، يرتكب انتحاراً ثقافياً"
كما أدمن المسلمون نظرية المؤامرة، إذ اعتادوا إلقاء اللوم في تخلفهم على الغرب، بينما يرى أن اللوم يجب أن لا يقع على الغرب لنجاحه، بل على العالم الإسلامي لفشله، وهذا الفشل لم يكن نتيجة للإسلام كدين، وإنما نتيجة حتمية للانتحار الثقافي والعقلي الذي حصل قبل 11 قرناً.
كما يشخص المؤلف أن هناك مسلمون يعرفون العلة والعلاج، ولكنهم بلا جمهور، ولا أنظمة سياسية حاكمة ترغب في الإصغاء إليهم أو تحميهم. فهناك معركة حامية داخل الإسلام نفسه. وهذا الكتاب يعمل لفهم هذه المعركة ونتائجها. فيستشهد المؤلف بقول لباحث أكاديمي باكستاني، الأستاذ فضل الرحمن: "إن شعباً يحرم نفسه الفلسفة لا بد وأن يحرم نفسه من الأفكار الحديثة، أو بالأحرى يرتكب انتحاراً ثقافياً".
يقول المؤلف، هناك سبيلان لإغلاق العقل، الأول، هو إنكار قدرة العقل على إدراك الواقع والحقيقة. والثاني، إنكار وجود الواقع الذي يمكن إدراكه. ويسأل: هل بإمكان العقل إدراك الحقيقة؟ وهل بإمكان معرفة الله عقلياً؟ ومن هنا حصل شرخ كبير بين العقل والحقيقة، أي بين العقل وبين الله. هذا الانفصام ليس في القرآن، بل في الثيولوجيا الإسلامية المبكرة، والذي أدى إلى إغلاق عقل المسلم.
من الأشعري إلى بن لادن
من كل ما تقدم، يستنتج المؤلف، أن الإرهاب الإسلامي الذي نشهده اليوم هو نتاج إغلاق عقل المسلم الذي بدأ في القرن التاسع الميلادي على يد الأشعري. فالمشكلة فكرية كبيرة، لأنها تشمل حرمان المسلمين من التطور والنمو العلمي ونشوء أنظمة ديمقراطية ذاتياً. وإغلاق العقل هو أساس تخلف العرب، وانحدارهم إلى أسفل سلم التنمية البشرية وخاصة في العلوم، مستشهداُ بتقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي لعام 2002. ويرى أن هذا هو سبب عدم تصديق العرب لحد الآن بنزول الإنسان على سطح القمر مثلاً، أو كروية الأرض، ويعتقدون أن الكوارث الطبيعية مثل إعصار كاترينا، هو انتقام من الله على البشر لمخالفتهم أوامره.
ويسأل الدكتور رايلي: هل الإرهاب الإسلامي هو نتاج الإسلام كدين، أم الإسلامية، أي الإسلام السياسي؟ وهل الإسلامية هي صورة مشوهة من الإسلام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن أين أتى هذا التشويه؟ ولماذا الإسلام دون غير من الأديان معرض إلى هذا النوع من التشويه؟ ويحاول الإجابة على هذه التساؤلات في القسم الأخير من الكتاب.
المشكلة الأخرى عند العرب هي تحفظهم وشكهم من كل شيء غير عربي، فلما بدأ الانفتاح على الثقافة الهيلينية في عهد المأمون، ونظراً لعدم معرفتهم بالعلوم، أطلقوا عليها تعبير: "العلوم الدخيلة". والمؤسف أنه لحد الآن يستخدمون هذا التعبير التسقيطي للحط من المعارف التي يتلقاه المسلم من بلدان غير مسلمة.
ويؤكد المؤلف أنه لولا الأشعري وحربه على المعتزلة، والغزالي وحربه على الفلسفه والعقل، ولو استمر المعتزلة في نهج العقلانية، ولو انتصر ابن الرشد على الغزالي، لما انغلق عقل المسلم، ولكان وضع المسلمين مختلفا الآن، ولما تم تعطيل العقل وشل الفكر، ولما ابتلى المسلمون بنظرية المؤامرة، وإلقاء كل كوارثهم وتخلفهم وفشلهم على الأجانب والمؤامرات الدولية... والصهيونية وغيرها. فعقل المسلم هو عقل اتكالي، لا يثق بنفسه، مما أدى إلى حالة الركود والجمود الدائمين.
كما ويؤكد المؤلف أن منح الأولوية للعقل شرط أساسي للتقدم الحضاري ونجاح الديمقراطية، إذ لا ديمقراطية بدون عقلانية. وبدون العقل لا يمكن بناء مؤسسات علمية، ولا حكومة دستورية، ولا دولة مؤسسات. فإلغاء السبب المباشر وإيعاز كل شيء إلى إرادة الله، يلغي وظيفة العقل. وأولوية القوة على العقل في العالم الإسلامي السني له نفس العواقب الوخيمة. فبدون سبب ثانوي مباشر لا يمكن أن يحكم الإنسان نفسه ويفكر بحرية ومسؤولية، وبالتالي لا يستطيع أن ينمي قابلياته ويبدع.
ما أخذه الإسلام السياسي من الغرب
رغم حقد الإسلام السياسي على الغرب، إلا إنه كان انتقائياً في أخذ الكثير من تعاليم الشيوعية والفاشية رغم أنهما من نتاج الحضارة الغربية، ومنظرو الأيديولوجية الإسلامية أخذوا منهما دون الإشارة إليهما. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أخذ سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) فكرة (حزب الطليعة – الأخوان المسلمون)، لقيادة المسلمين إلى الحكم الإسلامي، وهي فكرة لينينية في تأسيس حزب الطليعة، الشيوعي لقيادة جماهير البروليتاريا. وكذلك هناك أفكار أخرى أخذها الإسلامي السياسي من الأيديولوجيات الغربية لا مجال لذكرها.
يطرح المؤلف سؤلاً مهماً وهو: لماذا لم يأخذ الإسلام السياسي من الغرب الديمقراطية بدلاً من بعض الأفكار من الأيديولوجيات الشمولية؟
ويجيب كما يلي:
أولاً، لأن هناك تشابه بين بعض الأفكار في الأيديولوجيات الشمولية الغربية والأشعرية في الإسلام، فعلى سبيل المثال يذكر المؤلف أن الشاعرة حطوا من دور العقل، ومنحوا الأهمية للإرادة الخالصة لله، وهي نظرية مطابقة للنيتشوية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني، فردريك نيتشه) التي تؤمن بالإرادة وأداتها القوة. والأداة السياسية المنفذة لهذه الإرادة هي الحزب النازي الألماني، إذ كما قال هانس فردريك بلانك، رئيس القسم الأدبي للفترة (1933-1935): "هذه الحكومة ولدت من خلال معارضتها للعقلانية".
"الحركات الإسلامية قلدت الأيديولوجيات التوتاليتارية الغربية"
وفي هذه الحالة إذا كانت الإرادة والقوة من أولويات الواقع، ففي خطوات متعاقبة يؤدي إلى النظام الشمولي (التوتاليتاري)، سواءً كانت الأيديولوجية دينية أو علمانية، فالغاية السياسية واحدة. فعندما تكون الإرادة الخالصة (وليس العقل) هي أساس الواقع، فستؤدي إلى طغيان حكم الاستبداد. وهكذا فالحركات الإسلامية قلدت الأيديولوجيات التوتاليتارية الغربية في هذا الخصوص، أي اتخذت الفاشية والشيوعية مثالاً لها للتقليد، فتبنوا مبدأ حزب الطليعة لقيادة الجماهير والاستبداد في الحكم.
كذلك هناك تشابه وتطابق في الأيديولوجيات الشمولية، الشيوعية والفاشية، مع الثقافات والتقاليد والأعراف الشرقية، والأهم، أن هذه الأيديولوجيات تنسجم مع فكرة إلغاء العقل، وتبني مبدأ الإرادة والقوة، بينما الديمقراطية لا يمكن تحقيقها إلا بالعقلانية.
الكتاب يقع في 244 صفحة من الحجم المتوسط، جدير بالقراءة، حبذا لو تقوم دار نشر عربية بترجمته إلى اللغة العربية ونشره على أوسع نطاق، وحتى بالنسخة إلكترونية على الانترنت، لتعميم الفائدة.