قدماء المحاربين الموريتانيين لا ينتظرون سوى الإنصاف
١٦ نوفمبر ٢٠١٤بعد مرور قرن من الزمن على مشاركتهم في الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش الفرنسي، أو في الحرب العالمية الثانية، ما يزال قدماء المحاربين الموريتانيين موضوع شد وجذب. الفنان يورو دجيكو، صاحب معرض فنى نظم بالمناسبة، يقول في حوار مع DW إن تنظيم المعرض كلفه رحلات متعددة إلى مناطق نائية داخل موريتانيا لمدة ثمانية أشهر بهدف مقابلة من بقي على قيد الحياة من المحاربين، وهي تشكل بالنسبة إليه تحديا شخصيا ومهنيا.
النظرة السائدة في المجتمع الموريتاني للمحاربين القدامى تسبب ازعاجا مستمرا لرجال لا يرغبون إلا في الانصاف بعد أن تعرض تاريخهم للطمس، كما يؤكد غي عليون رئيس الاتحاد الوطنى للمحاربين القدامى وضحايا الحروب في موريتانيا.
ومن جهتها قررت فرنسا تخليد مرور 100 سنة على اندلاع الحرب العالمية الاولى، عبر فعاليات عديدة ضمنها الاحتفاء بالمتبقين على قيد الحياة من قدماء المحاربين من أبناء المستعمرات، الذين قاتلوا دفاعا عن فرنسا في الحربين العالميتين(الاولى والثانية) وفي حروب فرنسا، نهاية الخمسينات من القرن الماضي، ضد بعض مستعمراتها التي كانت تسعى للتحرر.
ويحرك الاحتفاء بقدماء المحاربين في موريتانيا، شجونا كثيرة في المستعمرة الفرنسية السابقة بافريقيا الغربية، وللتعبير عن رؤيته لهذا الملف شائك توخى الفنان يورو دجيكو تنظيم معرض لعشرات اللوحات والصور التي تؤرخ لمراحل هامة من حياة أولئك الرجال الذين دافعوا عن علم ما كان يعرف بالدولة الأم (فرنسا)، في مختلف جبهات القتال من أوروبا إلى الهند الصينية (فيتنام) انتهاء بالجزائر، قبل إعادتهم إلى بلدهم الأصلي موريتانيا.
الفن كسبيل لرد الإعتبار
وحول دوافعه لتجشم المتاعب يقول الفنان الموريتاني، يورو دجيكو:"لم يحظ هؤلاء الرجال بالتقدير الكافي من قبل المجتمع الموريتاني بسبب ما يصفه البعض بتعاونهم مع المستعمر ضد شعوبهم، لكن الأمر ليس بتلك الصورة دائما، فهؤلاء الرجال لم يختاروا بإرادتهم أن يكونوا مجندين في الجيش الفرنسي، و لم يكن أمامهم أي خيار للمشاركة في حروب فرنسا".
ويستدرك الفنان الموريتاني قائلا"عندما يتم الحديث عن تجنيدهم من طرف فرنسا يجب أن لا ننسى كذلك بأنهم شكلوا النواة الأولى للجيش الموريتاني بعيد الاستقلال وقدموا له تجربتهم العسكرية، كما أن العديد من هؤلاء دافعوا عن موريتانيا خلال حرب الصحراء سنة 1975".
بالنسبة للفنان دجيكو فإن قصة قدماء المحاربين مع الجيش الفرنسي، هي أيضا تحد شخصي، فهي تشكل بالنسبة إليه ر اعتبار لوالده الذي كان مجندا سابقا في الجيش الفرنسي ورحل قبل أشهر قليلة و يعبر عن ذلك بالقول: "انا ابن لأحد المحاربين السابقين في الجيش الفرنسي وهو ما مكننى من الاطلاع على الروح الوطنية لهؤلاء والإحساس بالاحترام الذي يكنونه لوطنهم الأصلي، ولكنهم لم يحظوا بالتقدير الذي يحظى به أقرانهم في الدول المجاورة مثل المغرب أو السنغال أو مالى". ويؤكد الفنان الموريتاني أن"هذا المعرض مجرد مرحلة أولى من عمل طويل سينتج عنه فيلم سينمائي وكتاب للنشر".
جراح الماضي لم تندمل
يتحدث غي عليون رئيس الاتحاد الوطنى للمحاربين القدامى لـ DW عن تجربته الشخصية قائلا"كنت شابا أعيش بقريتى بولاية ترارة (جنوب غرب مويتانيا) عندما تم تجنيدي بالقوة من قبل الفرنسيين سنة 1953، وبعد تدريب قصير التحقت بجبهة القتال لمدة عدة أشهر في الهند الصينية، ومن ثم تم تجنيدي في حملة قمع الثورة الجزائرية". ويتوقف عليون قليلا ليوضح قائلا:"لم تكن تلك المرحلة بالطبع تكشل مصدر اعتزاز ولا فخر، لأننى كنت مرغما على قتال مسلمين مثلي، لكن وضعي كمجند إلى جانب مئات المجندين من مختلف المستعمرات الافريقية كان يحتم على أن أتصرف تبعا للتعليمات العسكرية، خصوصا وأننا كنا نقع أحيانا في كمائن من قبل الثوار، الأمر الذي يدفعنا للدفاع عن أنفسنا ضد من يريد قتلنا، وقد جرحت شخصيا في حرب الثورة الجزائرية".
ويرفض عليون اتهام قدماء المحاربين في الجيش الفرنسي بأنهم كانوا في "خدمة السياسة الاستعمارية ضد الشعوب المقهورة"، قائلا "هذا مجرد ادعاء غير صحيح، لطالما اعتبرنا أنفسنا مجرد مجندين موريتانيين وأفارقة، وحتى نظرة الفرنسيين لنا كانت تجعلنا نتمسك بهويتنا، ولهذا رفضنا الحصول على الجنسية الفرنسية بعد انتهاء الحرب رغم ما كان يتيحه الحصول عليها من امتيازات".
ويعبر عليون عن أسفه لكون الادارة الاستعمارية تمنحهم اعتبارا أفضل بكثير مما منحتهم بلدانهم التي تشبثوا بالانتماء اليها، ويقول في هذا السياق: "لم يكن أحد منا يفخر بالدفاع عن الأمة الفرنسية، لكنها قدمت لنا حوافز جيدة، فبغض النظر عن الراتب الذي كان يصل إلى 150فرنك فرنسي(قبل اعتماد العملة الأوروبية الموحدة) كل شهر ومستحقات التقاعد، فإن بطاقة محارب قديم توفر لنا احتراما في العديد من المستعمرات السابقة مثل الجزائر والمغرب والسنغال...".
"عملاء بالقوة"
مرحلة الاستعمار الفرنسي للبلدان الافريقية تمثل حقبة مظلمة في تاريخ تلك شعوب القارة السمراء، بغض النظر عن الطريقة التي كان المستعمر ينفذ بها سياسته، وقد راح العديد من ابناء المستعمرات ضحية رفضهم للاستعمار في إطار المقاومة الوطنية.
وقد كان المستعمر ينفذ سياسته بواسطة أعوان محليين من السكان الأصليين، يعتبر المجندون السابقون هم "حلقتها الأضعف" حسب ما يقول سعد بوه ولد محمد المصطفى رئيس الرابطة الموريتانية لتخليد بطولات المقاومة.
وأعرب المصطفى لـDW عن نظرته للمحاربين القدامى قائلا:"رغم كون هؤلاء كانوا أداة ينفذ بها المستعمر أهدافه ضد الشعوب المقهورة، فإنه لا يمكنني القول بأنهم كانوا مرتزقة وإنما مجندون أرغموا عل العمل لخدمة فرنسا، وفي أسوإ الحالات يمكن الحديث هنا عن الحاجة الاقتصادية التي دفعت بعضهم إلى العمل لصالح فرنسا، وهذا بالنسبة لي يخفف من النظرة الحادة تجاههم".
ويرى كباد ولد عبد الرحمن، باحث في التاريخ الاستعماري المغاربي بجامعة نواكشوط، بأنه لا ينبغى وضع المحاربين القدامى في دائرة الخونة، لأن ذلك يدخلنا في متاهات واسعة، من قبيل تعريف الخيانة في القانون الدولى وبالمعايير الانسانية، وما هي الوضعية السياسية التي كان يعيشها العالم آنذاك.
ويؤكد ولد عبد الرحمن أن مسألة العمالة والخيانة ليست مطروحة مادام نظام السخرة هو المعمول به في كل المستعمرات الفرنسية، لأن "الخائن هو من يقوم بالشر ضد وطنه، بينما استفاد المجندون من الخبرات القتالية ونقلوها إلى بلدانهم بعد الاستقلال وبعضهم ساهم في الثورات ضد الاستعمار كما حدث في الجزائر".
ويبرز الباحث الموريتاني "لعل من ايجابيات وجود المحاربين القدماء أنهم كانوا الدعامة التي أسست عليها جيوش الدول المستقلة في ظرف كانت فيه تلك الشعوب تتخوف من المهنة العسكرية وتحتقرها أحيانا أخرى".