فرنسا ـ تداعيات محتملة لفوز الأحزاب المتطرفة على عملة اليورو
١ يوليو ٢٠٢٤قطعت أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار في فرنسا على نفسها تعهدات قوية خلال الحملات الانتخابية، يقول خبراء إن تكلفة الوفاء بها مرتفعة للغاية.
وكانت الداخلية الفرنسية قد ذكرت الاثنين (الأول من يوليو / تموز 2024) أن حزب التجمع الوطني المنتمي لليمين المتطرف وحلفاءه قد حصلوا على 33 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات، فيما جاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة في المركز الثاني بحصوله على 28 بالمئة.
وفيما يتعلق بتحالف الوسط الذي ينتمي له الرئيس إيمانويل ماكرون، فقد حل في المرتبة الثالثة بعد حصوله على 20 بالمئة من الأصوات.
وتدرجت تعهدات أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار الانتخابية من خفض سن التقاعد إلى 60 عاما ورفع الحد الأدنى للأجور وحتى منح إعفاءات ضريبية شاملة لكل شخص تحت سن الثلاثين.
وعلى وقع ذلك، قال مراقبون إن كل وعد انتخابي من المرجح أن يشكل تهديدا محتملا جديدا من شأنه أن يثقل خزينة الدولة الفارغة، بمليارات اليورو فيما لم تخرج أصوات من كلا المعسكرين للحديث عن مصادر تمويل برامجها الانتخابية.
فرنسا.. المثقلة بالديون
بدوره، قال فريدريش هاينمان، الخبير في السياسات المالية العامة بمعهد لايبنيز للبحوث الاقتصادية الأوروبية ومقره برلين، إن الوعود التي تقدمها الأحزاب الشعبوية في فرنسا تعكس "تطرفا كبيرا في السياسة الاقتصادية".
وفي مقابلة مع DW، أضاف "تتسم برامجها الاقتصادية بكونها غير واقعية على الإطلاق. هذه البرامج صيغت من أجل بث السعادة، لكنها ليست في صالح الاقتصاد الفرنسي الراهن".
وتئن فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، تحت جبل من الديون يعادل ما يقرب من 110% من الناتج المحلي الإجمالي فيما بلغ العجز التجاري العام الماضي نحو 5.5% من الناتج الاقتصادي الإجمالي للبلاد.
ويقول خبراء إن كلا الأمرين يمثل ذلك مشكلة وفق معاهدة ماستريخت للاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ عام 1993، والتي تسمح ببلوغ العجز التجاري نسبة 3% فقط مع وضع الحد الأقصى للديون السيادية عند نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويشير الخبراء إلى أن الأمور قد تسوء فيما تفيد تقديرات بأن الوعود الانتخابية التي تقدمها أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار يمكن أن تضيف عبئا قد يصل إلى 20 مليار يورو (21.4 مليار دولار) سنويا إلى الموازنة العامة الجديدة.
بيد أن بعض الخبراء قالوا إن هذا التقدير يتسم بالتحفظ في ضوء ضخامة فاتورة تنفيذ هذه التعهدات الانتخابية.
وطرح خبراء تساؤلات حيال ما يمكن أن يقدم عليه الاتحاد الأوروبي من خطوات في حالة تجاهل أي حكومة شعبوية جديدة معايير اتفاقية ماستريخت.
وفي تعليقه، قال لورينزو كودوجنو، أستاذ الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد والمسؤول السابق بوزارة المالية الإيطالية، "لا توجد خطة بديلة".
ويشير الخبراء إلى أن الوضع في إيطاليا يعد أسوأ مقارنة بفرنسا إذ واجهت روما العام الماضي عجزا ماليا بلغ نسبة 7.4% فيما وصل نسبة الدين إلى 140% من الناتج المحلي الإجمالي.
بيد أن الفارق هو أن بقاء ماكرون في منصب الرئاسة مهددا، على عكس رئيسة الوزراء الإيطالية ذات التوجه المحافظ جيورجيا ميلوني، التي تبدو وظيفتها آمنة.
معاناة اليورو
ورغم أن كودوجنو لا يرى سيناريو من شأنه أن "يشق اليورو" في أعقاب نتائج الانتخابات الفرنسية، إلا أنه لا يستعبد حدوث سيناريو يتمثل في وصول "جميع المؤسسات الأوروبية إلى طريق مسدود ما قد يبطأ العمل".
وأضاف أن العملية سوف تتعطل بشكل كامل جراء استنزاف كافة المبادرات السياسية، قائلا: "قد تحدث مشكلة في حال دخول الولايات المتحدة والصين في حرب تجارية تتزامن مع استمرار حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي تسود العالم مع استمرار حربين قرب الحدود الأوروبية".
وألمح الخبير الاقتصادي إلى امكانية أن يؤثر الأمر على قيمة اليورو خارج بلدان التكتل، مضيفا: "القول بان اليورو سيعاني له ما يبرره، ليس فقط حسب قيمة الأصول، بل قيمة العملة أيضًا".
لا حماية ضد السياسات الاقتصادية الشعبوية
الجدير بالذكر أنه جرى تخفيف معايير اتفاقية ماستريخت الصارمة خلال جائحة كوفيد وبقت أكثر مرونة بعد ذلك، حيث لم يدخل الإطار التوجيهي الأخير بشأن السياسة الاقتصادية لمنطقة اليورو حيز التنفيذ إلا أواخر إبريل/نيسان الماضي.
ورغم وجود حدود فيما يتعلق بمعدل الديون والعجز الحكومي، إلا أن الإطار الجديد يمنح الدول مساحة أكبر للمناورة حيال كيفية قيامها بترتيب أوضاعها المالية وتوقيت ذلك.
ومع ذلك، يخشى كودوجنو أن هذا الإجراء لن يكون كافيا لبعض البلدان، قائلا: "يمكن أن تصبح فرنسا أول دولة تنتهك عمدا الاتفاقيات الجديدة الخاصة بالأُطر المالية".
وحذر مراقبون من أن احتمالات قيام الدول المثقلة بالديون بعمليات ابتزاز باتت حقيقية، فلم تتعرض الدول لعقوبات سواء من قبل المفوضية أو البنك المركزي الأوروبي بسبب تخطيها مستويات الديون والعجز.
وفي تعليقه، قال هاينمان، الخبير في معهد لايبنتز، "هذا ما يمثل المشكلة التي ناور من خلالها البنك المركزي الأوروبي خلال السنوات القليلة الماضية عن طريق القول باستمرار بانه على اتم الاستعداد للمساعدة".
وأشاد الباحث بتمكن البنك المركزي الأوروبي من مساعدة البلدان للخروج من أزماتها المالية مثل ما وقع أثناء جائحة كورونا، لكنه دعا إلى ضرورة الحذر. وفي ذلك، قال "لا يمكن أن يكون البنك المركزي الأوروبي الكيان المنوط به إبقاء اقتصادات اليورو واقفة على قدميها مهما كلف الأمر حتى إذا كان سبب مشاكل هذه الدول ناجما عن سياسات اقتصادية غير عقلانية. هذا السلوك من قبل البنك المركزي الأوروبي من شأنه أن يبعث برسالة خاطئة."
من المسؤول؟
وينتقد هاينمان حقيقة مفادها أن المفوضية الأوروبية ظلت متساهلة خلال الأعوام والعقود الماضية مع الدول المثقلة بالديون، قائلا إن هذا الأمر يشير إلى أن الدور الرئيسي الذي تلعبه المفوضية الأوروبية في تطبيق قواعد منح الديون يعد أحد "العيوب" التي تشوب التصميم الأصلي لمنطقة اليورو.
وأضاف أن الاتحاد الأوروبي، باعتباره حكومة الأمر واقع، لا يمتلك الأدوات التي تؤهله ليكون "الطرف الذي بيده القرار النهائي عندما يتعلق الأمر بالدول الأعضاء المثقلة بالديون بسبب أنه دائما في موضع يستدعي منه الدخول في مفاوضات مع كل دولة عضو من أجل التوصل إلى حل وسط.".
ويدعو هاينمان إلى انخراط المجلس المالي الأوروبي - الذي يتألف من لجنة من مستشاري التكتل- في عمليات الإشراف واتخاذ القرار في ضوء دوره الخاص بتقييم هل تقوم المفوضية الأوروبية بتقييم الأوضاع المالية للدول الأعضاء بدقة ؟ وهل تطبق ميثاق الاستقرار والنمو بشكل صحيح أيضا؟
وقد أصدر الاتحاد الأوروبي ما يُعرف بـ "ميثاق الاستقرار والنمو" أواخر التسعينات بهدف وضع حد أقصى لديون البلدان عند 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي والعجر عند نسبة ثلاثة بالمئة.
وأشار هاينمان إلى أن المجلس المالي الأوروبي لم يعد يمتلك أي دور في صناعة الآراء السياسية.
ابتزاز التحويلات النقدية
وسلط الخبير الاقتصادي الضوء على تداعيات استمرار المفوضية الأوروبية "في العمل على هذا النحو السياسي؛ أي الاستمرار في اللجوء إلى تسويات سياسية بدلا من اتخاذ قرارات صارمة".
وأضاف "في حالة المضي قدما في هذه السياسية، فإنني أرى أياما حالكة تنتظر قضية تراكم الديون في منطقة اليورو"، مشيرا إلى أن دوافع الناخبين الذين صوتوا لصالح الأحزاب الشعبوية في فرنسا تعزز مخاوفه.
وقال "هؤلاء الناخبون يرددون عبارات مثل (نعلم أن السياسات التي نصوت لصالحها لن تنجح، لكن من خلال التصويت لصالح هذه الأحزاب، يمكننا الحصول على تحويلات نقدية من دول شمال أوروبا وهذا ما يعد خيارا أفضل من الاضطرار إلى التعامل مع تدابير التقشف داخل بلداننا)".
وحذر الخبير من مغبة التقاعس عن اتخاذ خطوات لوقف ذلك، قائلا: "إذا لم يتم منع ذلك، فإننا سنواجه مشكلة كبيرة عندما يتعلق الأمر بمدى الرضا تجاه الاتحاد الأوروبي في دول شمال أوروبا".
أعده للعربية: محمد فرحان