"فرانكشتاين تونس" يحرج "ديمقراطية" الرئيس قيس سعيّد
٦ مايو ٢٠٢٣يرتب حبيب الزغبي الكتب في الجناح الخاص بـ"دار الكتاب" للنشر بمعرض تونس الدولي للكتاب بقصر المعارض بضاحية الكرم بالعاصمة، وفي كل مرة يجد نفسه مضطرا لتكرار الإجابة نفسها في رده على استفسارات الزائرين بشأن غياب كتاب "فرانكشتاين تونس" للكاتب كمال الرياحي، والذي تم سحبه من المعرض منذ يوم افتتاحه في دورته لهذا العام.
قبل أشهر من المعرض كان الرياحي الذي شغل منصب مدير "بيت الرواية" بمدينة الثقافة بالعاصمة، قد أثار جدلا بروايته "المشرط" بسبب ترجمتها إلى اللغة العبرية، ما فجر اتهامات له بـ"التطبيع الثقافي" مع إسرائيل من قبل منتسبين إلى "التيار القومي العربي".
دفعت الضغوط الرياحي إلى مغادرة تونس نحو كندا لكنه عاد ليشغل الرأي العام بإصداره الجديد والناقد لحكم الرئيس قيس سعيد بعد تعزيزه لسلطاته بشكل واسع منذ إعلانه التدابير الاستثنائية في البلاد عام 2021.
الرياحي في قلب العاصفة
خرج الرياحي عن المألوف هذه المرة، فكتاب "فرانكشتاين تونس" لم يكن رواية بل هو كتاب في السياسة وتدبر الواقع التونسي، وفق ما ذكره مؤلفه.
تبدأ الرمزية باستعارة شخصية فيكتور فرانكشتاين، الشخصية المعروفة في رواية ماري شيلي، صانع الوحش، إلى محك الواقع التونسي. فمثلما عاش فيكتور الحزن والقلق بعد وفاة أمه قبل أن يصنع وحشه، كان الشعب التونسي في تفسير الرياحي، يعيش أيضا مشاعر اليتم الخلاقة نفسها التي كان يتخبط فيها قبيل انتخاب قيس سعيد.
ويمضي الرياحي في شرح رمزية كتابه على غلافه الخارجي قائلا "فشل هذا الشعب في العثور على حل لتيهه التاريخي بعد إسقاط دكتاتور كان يعتقد أنه المعرقل الوحيد أمام إدراكه السعادة. فما هلل هذا الشعب يوما لحاكم إلا وانقلب عليه، فلا نفعه الحقوقي والمناضل ولا حتى السياسي المحنك".
في النهاية تدور خلاصة الرياحي بشأن تدبر الواقع التونسي مثلما يرويها "إن تلك الحشود من الجماهير ومن لم يقتنع بأحد، لم يكن أمامها سوى صناعة وحش من خيباتهم، شخص لا يعدهم بشيء لأنهم ملّوا الوعود الكاذبة. لم يكن أمامهم إلا صوت ذلك الأستاذ السوريالي الذي لا يضحك أبدا لكي ينتقموا من الكل، من السيستم الذي ظل مستمراً رغم تغير الوجوه والقادة".
لكن لا الكتاب ولا الرياحي كانا متواجدين في المعرض الدولي للكتاب للاحتفاء بأفكاره ورمزيته، وهو أمر أثار تكهنات بوجود نوايا رقابية مسبقة على الثقافة، لا سيما مع صدور مؤشرات مقلقة بموازاة أسبوع المعرض الدولي للكتاب، تمثل في تراجع ترتيب تونس في مؤشر حرية الصحافة بـ27 مركز في تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود" مقارنة بآخر تصنيف في 2022 لتحل هذا العام في المركز 121.
يأتي التصنيف الجديد بعد أشهر حافلة بعدة إيقافات لصحفيين ومدونين وملاحقات قضائية وفق المرسوم الرئاسي 54 الذي أصدره الرئيس سعيد والمنظم لجرائم أنظمة الاتصال والمعلومات . تقول المعارضة إن المرسوم وضع عمليا لخنق آراء المنتقدين.
أزمة "مفتعلة"
في حديثه مع DW عربية يروي الحبيب الزغبي مدير "دار الكتاب" التي قامت بنشر "فرانكشتاين تونس"، إن الأزمة من وراء سحب الكتاب من الجناح في المعرض كانت مفتعلة وقامت على تأويل تبنته السلطات في تطبيق الإجراءات.
عللت إدارة المعرض سحبها للكتاب بعدم تواجده في القائمة التي تقدمت بها دار النشر قبل انطلاق المعرض ولا حتى القائمة التكميلية، وهي حجج رفضها الزغبي، مضيفا "لا القانون الداخلي للمعرض ولا العرف والعادة يفرضان على العارضين تقديم قائمة إضافية".
ظهر الرئيس قيس سعيد لاحقا على شاشة التلفزيون العمومي في مكتبة خاصة، نافيا شبهات التضييق على حرية الرأي والإبداع بينما تعهدت إدارة المعرض بإعادة الكتب وإبقاء كتاب "فرانكشتاين تونس" قيد المراجعة قبل إصدار أي قرار بشأنه.
لكن بالنسبة للزغبي فإنه استبعد قبل أن يتم الإفراج عنه في دورة هذا العام وأن الأمر يتعلق بربح الوقت من قبل اللجنة المنظمة ليس إلا. وكان المأخذ الأكبر على غلق الجناح الخاص بـ"دار الكتاب" لمدة يومين.
وبينما يلوح أفق غير واضح لمستقبل الإبداع الثقافي وحق النشر في تونس يقول الزغبي إن السؤال الأهم هو "من يدفع إلى هذه الزاوية ويتخذ مثل هذه القرارات؟ ما كان ليحدث هذا لو تعاملت الّإدارة بلياقة أكثر دون إقحام الأمن وقرارات الغلق".
في الأثناء حظي الكتاب بإقبال غير متوقع على اقتنائه في المكتبات الخاصة حيث نفدت النسخ الـ200 الأولى التي طرحت ويجري انتظار طبع نسخ جديدة لتلبية الطلبات. وينظر إلى الجدل المثار حول سحبه بـ"ضربة اتصالية" مربحة.
قال كمال الرياحي معلقا على ذلك "منعت السلطة كتابا في معرض الكتاب فجعله الشعب أكثر الكتب التونسية انتشارا. للكلمة شعب يحميها".
وبشكل ما استفاد أيضا كتاب الصحفي نزار بهلول "قيس سعيد ربان سفينة تائهة"، حيث جرى سحبه أيضا في اليوم الأول من قبل إدارة المعرض، قبل أن يصدر قرار بإعادته في اليوم التالي.
صدر الكتاب عام 2020 باللغة الفرنسية ثم وقع ترجمته إلى العربية وعرض في دورة 2021 للمعرض. ولكن ما حصل وفق "الدار التونسية للكتاب" التي تولت طبع ونشره، أنه أخذ بجريرة كتاب كمال الرياحي.
قال سليم بوعلي العامل بدار النشر في شهادته لـDW عربية "طلبوا بسحبه من دون باقي الكتب إلى حين التثبت من القائمة. بعد اجتماع لجنة في الليل عادوا في الغد وسمحوا بإرجاع الكتاب. كان من الممكن تجاوز الإشكال منذ البداية دون أن تحصل ضجة". وفي مطلق الأحوال عاد قرار السحب بالنفع على الكتاب حيث نفدت النسخ القليلة منه واضطرت دار النشر لجلب نسخ أخرى إلى جناحها في المعرض.
مع الاقترار بوجود مخالفة في الإجراءات، إلا أن سهيل الشملي العضو في اللجنة المنظمة للمعرض الدولي للكتاب أشار في لقائه بـDW عربية إلى "سوء تقدير وسوء تعامل مع الوضعية"، ففي رأيه كان يتعين التصرف "بأكثر هدوء وحكمة". مضيفا "وقع نوع من الانفلات لا دخل للجنة التنظيم فيه. تدخلت أطراف" لم يسمها متحججا بواجب التحفظ.
وفي تقدير الشملي فإن الأصل في الإبداع والتفكير والتعبير من الناحية الدستورية، هو الإباحة والحرية أما الاستثناء فهو فيما يخالف الإجراءات لكنه في تفس الوقت يعنرف بأن "الأمر برمته أساء الى تونس وهو يستدعي تحقيقا".
ويستدرك الشملي في حديثه "ما عساه يكون مضمون الكتاب؟ مهما وصل فهو لا يمثل خطرا. لأن المشهد في البلاد اليوم حافل بالنقد ونحن ما زلنا نتحسس طريق الديمقراطية".
أزمة ديمقراطية
على مقربة من جناح "دار الكتاب" كانت الأصوات تعلو من داخل حلقة نقاش حول "الديمقراطية" على هامش أنشطة المعرض، يديرها مفكرون وأساتذة فلسفة. لم يخل نقاش من الحدة والاختلاف والتلميحات الصريحة بشأن مخاطر الديمقراطية المباشرة أو إدارة السلطة المطلقة باسم الشعب.
كان قرار سحب الكتاب قد ألقى بظلاله على حلقة النقاش، وتردد صداه أيضا على أنشطة المعرض السنوي على الرغم من تنوع برنامجه والعروض الفنية والثقافية التي حفلت بها صالة العرض الرئيسي، ومن بينها رقصات وافدة من الصين وشرق أوروبا.
في حديثه مع DW عربية بشير الباحث التونسي/ الفرنسي، محمد شريف الفرجاني أستاذ العلوم السياسية والدراسات العربية في جامعة ليون بفرنسا "لا يمكن بأي حال من الأحوال سحب كتاب. الفكر يقاوم بالفكر، إذا لم يعجبك كتاب فعليك أن ترد بكتاب. لا يمكن استخدام السلطة لإقصاء أفكار الآخرين".
لا يفصل للفرجاني الذي شارك في حلقة النقاش حول نظرة الفلسفة إلى الديمقراطية، بين ما حصل وما يجري من تحولات سياسية مقلقة في البلاد، بما في ذلك الانتقال من الديمقراطية التمثيلية والنيابية إلى الديمقراطية باسم الشعب والأشبه بالديمقراطية المباشرة.
ويعلق على ذلك الفرجاني "الديمقراطية التمثيلية لها مساوئ يمكن أن تنزلق بها إلى ديمقراطية حزبية تدافع على مصالح الأحزاب باسم الشعب لكن نقد هذا لا يكون بديمقرطية مباشرة مزعومة. هذه أكذوبة ومخاتلة. الديمقراطية الحقيقية التي تحدث عنها الرئيس سعيد هي مغالطة".
وردد الفرجاني ساخرا "يمكن محاسبة ممثلي الأحزاب والنواب عندما يخطؤون ولكن لا يمكن محاسبة شعب. هل سنحل الشعب؟".
تونس - طارق القيزاني