غيرهارد شرودر: هالة إعلامية جذابة و"شخصنة" للعمل السياسي
لا تزال القصص والحكايات الكثيرة، الحقيقية والمُختلقة منها على حد سواء، حول السيرة الذاتية للمستشار الألماني وحول وقائع صعوده ووصوله إلى قمة سلم السطة السياسية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وتبوءه لمنصب المستشار في 27 أكتوبر/تشرين أول 1998 ، تثير مخيلة العاملين في حقول السياسة والصحافة الألمانية. الحكاية الأشهر والأكثر تأثيراً على إدراك الناخبين الألمان لشخصية شرودر تروي أن السياسي الشاب شروردر وقف أمام بوابة مبنى المستشارية الألمانية في العاصمة القديمة بون، ثم قام بهز قضبانه بقوة صارخاً:" أنا أريد الدخول هنا".
طفولة مريرة دون فرص تعليم
ولد غيرهارد شرودر في 7 أبريل/نيسان 1944 في موسينبيرج/ ليبه في ولاية سكسونيا السفلى، وترعرع في أسرة "فقيرة جداً" على حد قوله. ولكن النقص المادي لم يكن الهاجس الأكبر الذي اقلق مضجعه، بل غياب فرص التعليم الذي ساهم مساهمة فاعلة في بلورة شخصية شرور التي اضطرت إلى تعلم "فرض نفسها بالقوة "، على حد تعبير المستشار. غياب فرص التعليم في طفولته دفع شرودر إلى بدء دراسة مهنية مؤهلة للعمل كبائع تجزئة بين 1959 ـ 1961، ثم قام الشاب الطموح بالدراسة في مدرسة مسائية والحصول على الشهادة الإعدادية. ورغم مزاولته لمهنته نجح شرودر في الحصول على شهادة المرحلة الثانوية ليبدأ دراسة الحقوق في جامعة جوتنجن في عام 1966 وينهيها بنجاح في عام 1971. وفيما بعد حصل شرودر على إجازة العمل كمحامي 1978 ـ 1990 وعمل كمحامي حُر في مدينة هانوفر.
تحول من "اليسار" إلى "اليمين" الاشتراكي
إنضم المحامي الشاب شرودر إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1963. ومن خلال عمله السياسي في الفترة ما بين 1978 ـ 1980 في إطار منظمة شبيبة الاشتراكيين التابعة له، والتي أصبح فيما بعد رئيساً لها، بدأت توجهاته السياسية في التبلور حيث تميزت بميولها إلى تبني مواقف يسارية آنذاك. وفي عام 1980 انتخب شرودر عضواً في البرلمان الألماني لأول مرة، ثم أصبح في عام 1986 عضواً في الأمانة العامة والمكتب التنفيذي للحزب الاشتراكي الديمقراطي. ولكن نقطة التحول الرئيسية إلى "اليمين الاشتراكي" في رؤية السياسي الشاب شرورد السياسية تزامنت مع توليه مهام سياسية على أرض الواقع، وهذا ما خرج إلى دائرة الضوء حين أصبح شرودر رئيساً للكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي في برلمان ولاية ساكسونيا السفلى التي تولى رئاسة حكومتها بعد فوزه بانتخاباتها في عام 1990 ومن ثم فوزه بالانتخابات البرلمانية الألمانية كمرشح للحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1998 لينهى بذلك هيمنة الحزب المسيحي الديمقراطي وزعيمه هيلموت كول على الحياة السياسية الألمانية التي إستمرت 16 عاماً. والجدير بذكره في هذا السياق أن شرودر تبني رؤية سياسية جديدة أطلق عليها "الوسط الجديد" في إشارة واضحة إلى أن متغيرات عصر العولمة تتطلب تياراً سياسياً جديداً يوافق بين "العدالة الإجتماعية وتحديات الحداثة المتعولمة".
إرادة قوية وهالة إعلامية جذابة
تتميز السيرة السياسية لشرودر بالصراعات الداخلية بين أجنحة وتيارات الحزب الاشتراكي الديمقراطي التي رافقت سيرورة صعوده المتواصل في المعترك السياسي الألماني، فهو واجه عداء الكثيرين من أنصار "اليسار الرومانسي" الذين لا يتعاطون بشكل بناء مع تحديات الواقع السياسي وفقاً لتحليله. غير أن تركيبة المجتمع الألماني التي تميل نسبياً إلى المحافظة تجعل من الصعب على الأحزاب "التقدمية" مثل الحزب الإشتراكي الديمقراطي الفوز بأغلبية تؤهلها لقيادة ألمانيا، إلا في حالة وجود مرشح يتمتع بكاريزما خاصة مثل شرودر، وهو ما دفع رئيس الحزب السابق أوسكار لافونتين إلى إعطاءه الأفضلية في منافسة المستشار السابق كول. وبالإضافة إلى هذه الإرادة القوية يتمتع شرودر بهالة إعلامية تهبه قدرة فريدة من نوعها على التعاطي مع وسائل الإعلام التي تمثل "السلطة الرابعة" في منظومة الديمقراطية التمثيلية، وهو ما دفع الكثيرون إلى تسميته بـ"مستشار الإعلام".
"شخصنة السلطة" ودور ألماني أكبر دولياً
على أرض واقع عملية صناعة القرار السياسي يتوجب على المستشار الألماني أن يراعي اتفاق البرنامج الحكومي مع حزب الخضر المشارك في الإتلاف الحكومي، وأن يقنع تكتل الأغلبية داخل البرلمان بسياسته (أغلبية المستشار). غير أن شرودر نجح في فرض رؤيته السياسية الخاصة على عملية صناعة القرار السياسي الألماني. هذه "الشخصنة" الجديدة من نوعها ظهرت بصورة جلية حين رفض شرودر، الساعي إلى دور ألماني أكبر وأكثر فاعلية في حلبة السياسية الدولية رغم إدراكه التام لحقائق واستحقاقات التاريخ الألماني، الحرب على العراق بصورة قاطعة منذراً بولادة سياسية ألمانية خارجية مستقلة عن وصاية "الأخ الأمريكي الأكبر".
.......ومفارقة السياسة الإصلاحية
وعلى الرغم من أن الأعوام الماضية شهدت تراجعاَ ملحوظاً في شعبية الحزب الاشتراكي الديمقراطي بسبب سياسة المستشار شرودر الإصلاحية، وتعرض حكومته الاتحادية إلى نقمة شعبية شديدة نظراً لازدياد نسبة البطالة بصورة لم يسبق لها مثيل وما رافقها من تنفيذ لإصلاحات "هارتس 4" وتقليص قدر الإعانة الاجتماعية، إلا أن المستشار شرودر لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة لدى غالبية الألمان. ويبدو أن قراره بوضع مستقبله في يد الناخب الألماني يعود إلى ثقته بأنه لا يوجد بديل لسياسته الإصلاحية الحالية في ظل غياب شخصية محافظة ترقي إلى هالة شخصيته الجذابة!
لؤي المدهون