علاء الأسواني:..لا تقفوا عند سماع الصفارة ..
٢٠ ديسمبر ٢٠١٦في البداية بدا المشهد عاديا..
.. سيدة متوسطة العمر تذهب للكشف في عيادة العيون فتجدها مزدحمة، تنتظر دورها وسط المرضى وفجأة تدوي صفارة فاذا بالمرضى جميعا - ماعدا السيدة - يقفون ثم يجلسون .. تندهش السيدة ولا تعلق. بعد قليل تدوي الصفارة من جديد فينهض المرضى ويجلسون.. يتكرر الأمر ثلاث مرات وفي المرة الرابعة عندما تدوي الصفارة اذا بالسيدة تقف مع المرضى وتجلس معهم ويتكرر ذلك مع كل صفارة ثم ينصرف المرضى لكن السيدة تستمر في الوقوف عند سماع الصفارة وهي وحدها في صالة الانتظار..
كانت هذه تجربة أجراها علماء النفس في جامعة بنسلفانيا الأمريكية . فقد تظاهر متطوعون بأنهم مرضى وصاروا يقفون ثم يجلسون عند سماع الصفارة بهدف اختبار رد فعل السيدة التى هي مريضة فعلا. بعد أن أخبر الباحثون السيدة بالحقيقة سألوها لماذا كانت تقف عند سماع الصفارة فأجابت:
- أحسست بأننى يجب أن أفعل مثل الآخرين والا فانني سأكون مستبعدة على نحو ما وعندما فعلت مثلهم أحسست بأنني مرتاحة أكثر بكثير.
هذه التجربة تفسر نوعا من السلوك الانساني اسمه "ضغط الأنداد"
Peer pressure
حيث يميل الأفراد إلى تقليد أي تصرف أو تفكير يتبناه معظم الناس فيحسون عندئذ بالراحة لأن تصرفهم بطريقة مختلفة يقلقهم. نظرية ضغط الأنداد يعتمد عليها النظام الاستبدادي في تشكيل الرأي العام حيث يتم التحكم الكامل في وسائل الاعلام فتحجب عن الناس الحقائق ولا تسمح لهم اطلاقا بالتفكير المستقل وانما تروج لأكاذيب وترددها باستمرار حتى يقتنع معظم الناس بأنها حقائق..عندئذ طبقا لنظرية "ضغط الأنداد" فان الأفراد القليلين الذين لازالوا يحتفظون بقدرتهم على التفكير المستقل سوف ينضمون إلى الرأي الغالب عند الجمهور وهكذا يتحول عقل الشعب كله إلى مادة لينة في يد الاعلام يشكلها كما يشاء.
عادة ما يمدح الديكتاتور الشعب ويتغنى بعظمته لكنه لايثق في قدرته على التمييز ويعتبره طفلا ساذجا عقله مثل الصندوق الفارغ يجب حشوه بالآراء السليمة بدلا من أن يحشوه خصوم النظام بالأفكار الهدامة. في أنظمة الاستبداد فقط توجه للمعارضين تهما مطاطة وهمية مثل التحريض ضد الدولة واثارة البلبلة وتكدير السلم الاجتماعي.
منذ أن تولى الرئيس السيسي السلطة، تمت السيطرة الكاملة على وسائل الاعلام فتم استبعاد كل الاعلاميين المستقلين وتعيين اعلاميين موالين وظيفتهم مدح الرئيس يعاونهم من يسمون بالخبراء الاستراتيجيين الذين ينفذون تعليمات الأمن: لم يعد هدف الاعلام نقل الحقيقة وانما طمسها أو تحويرها لخدمة الدعاية التى يريد النظام ترسيخها بالالحاح المستمر حتى تتحول إلى حقيقة في أذهان المشاهدين الذين صدقوها او تظاهروا بتصديقها لأنهم لا يتحملون التكلفة النفسية للتفكير المستقل.
فيما يلي بعض الأمثلة:
1 - الحقيقة: تلقى الرئيس السيسي دعما من دول الخليج يزيد عن 25 مليار دولار تم انفاقها بالكامل في عامين فقط مما دفع الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي مبلغ 12 مليار دولار بشروط قاسية يتحملها الفقراء وحدهم.
الدعاية: السيسي ينفذ مشروعات ستجعل من مصر بلدا عظيما في المستقبل وكل من يعترض على ذلك خائن كما ان الاقتراض من صندوق النقد يعتبر دليلا على قوة الاقتصاد المصري
2- تم انفاق المليارات في مشروع توسيع قناة السويس لكنه لم يحقق أي دخل مما يؤكد ان دراسات الجدوى لهذا المشروع لم تكن صحيحة.
الدعاية: قناة السويس الجديدة مشروع تاريخي عملاق سيجنى ثماره أولادنا وأحفادنا وكل من يشكك في المشروع اما اخواني ارهابي أو عميل مأجور
3 - الحقيقة: القمع في عهد السيسي أسوأ من أي وقت مضى وهناك تقارير عديدة عن انتهاكات مروعة في السجون كما أن أعدادا متزايدة من المعتقلين يموتون من التعذيب
الدعاية: رجال الشرطة يموتون دفاعا عنا في معركتهم ضد الارهاب وكل من يترصد أخطاءهم متآمر هدفه اسقاط الدولة حتى نكون مثل سوريا والعراق لكن مصر لن تسقط ولن تركع
4 - الحقيقة: المذبحة البشعة التى حدثت في الكنيسة البطرسية سببها تقصير أمني واضح
الدعاية : ليس من الوطنية الحديث عن أي تقصير أمنى حرصا على معنويات رجال الشرطة وهم يحاربون الارهاب.
عزيزي القاريء.. حاول ان تواجه زملاءك أو جيرانك بالحقائق السابقة سيرد عليك معظم الناس بالدعاية التي تم غرسها في اذهانهم لأنهم يصدقون الاعلام أو لأنهم يشعرون بالراحة اذا فكروا مثل الآخرين . كل من يعيش في مصر الآن سيدهشه أن الناس أصبحوا جميعا، باستثناء أفراد نادرين، يتبنون نفس الآراء حول كل القضايا ولم يعودوا قادرين أو راغبين في رؤية حقائق واضحة كالشمس .. غسيل المخ هذا قد حدث للناس في كل الأنظمة الاستبدادية وعادة ما يفيقون منه بواحدة من طريقتين: اما بنشر الوعي أو بكارثة تكشف لهم الحقيقة.
في عام 1967 صدق المصريون أننا سنلقي اسرائيل في البحر ونشرب الشاي في تل أبيب وفقا للدعاية التى رسخها في الأذهان الاعلام الناصري حتى أفقنا على الهزيمة. لا نتمنى ابدا ان تحدث كارثة في مصر توقظنا على الحقيقة وبالتالي فان واجبنا أن نجتهد لكي ننشر الوعي بين الناس حتى يروا كل شيء على حقيقته بعيدا عن دعاية النظام . واجبنا ان نرفض أكاذيب الاعلام وندافع عن الحقيقة حتى لو كان رأينا مخالفا للاغلبية .يجب أن نرفض الوقوف عندما تدوي الصفارة حتى لو وقف الآخرون جميعا.
الديمقراطية هي الحل