عبد الحكيم قاسم في برلين: لقاء حب وكراهية
١٢ أبريل ٢٠١١ماذا كان عبد الحكيم قاسم سيقول لو امتد به العمر حتى اليوم؟ تُرى، كيف سيكون رأيه في التطورات السياسية التي تشهدها مصر الآن؟ كان الكاتب سيتحمس بالتأكيد للثورة، وربما كان سينشط داخل حزب من الأحزاب، والأكيد أنه كان سيواصل هجومه على فساد أهل الحكم وأهل الثقافة، مثلما تعود أن يشن هجومه العنيف على الآخرين، حتى على أقرب أصدقائه المقربين من الأدباء والمفكرين. عندما عاد القاص عبد الحكيم قاسم من ألمانيا إلى مصر في منتصف الثمانينات من القرن العشرين قرر خوض معترك السياسة، وانضم إلى حزب التجمع اليساري، ورشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب. كانت تجربة أليمة قد توحي بأن على الكاتب المبدع أن يبتعد عن المعترك السياسي المباشر. لم يتحمل جسد الكاتب جراح المعركة الانتخابية، فخرج مصاباً بالشلل، وقضى سنواته الأخيرة طريح الفراش إلى أن توفي في عام 1990 عن خمسة وخمسين عاماً.
كتاب محمد شعير الصادر حديثاً عن دار ميريت المصرية بعنوان "كتابات نوبة الحراسة" يُعيد تسليط الضوء على هذا الأديب الذي غمرت أعماله النسيان إلى حد كبير، كما يسلط الضوء على "أدب الرسائل" شبه الغائب في الثقافة العربية. ورغم أن عبد الحكيم قاسم أبدع عدداً من الأعمال الكبرى في الأدب المصري المعاصر، أبرزها روايته "أيام الإنسان السبعة" و"محاولة للخروج" و"المهدي"، إلا أنه كان يشعر خلال حياته أنه لم ينل حقه، ربما لبعده عن مصر وغربته في ألمانيا التي سافر إليها في عام 1974 للمشاركة في ندوة أدبية، غير أن المقام امتد به هناك 11 عاماً، عاشها في برلين المنقسمة آنذاك إلى شطرين، غربي وشرقي.
في برلين شرع قاسم في الإعداد لأطروحة الدكتوراه عن الأدب المصري، وتحديداً عن جيله، "جيل الستينات"، ذلك الجيل المتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وعلى دور "الآباء" مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. كان قاسم يود أن يكتب أطروحة عن معاناة جيله وعن تفرده الإبداعي، أطروحة نقدية عن إبداع إدوار الخراط وإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني وسعيد الكفراوي. لكن قاسم كان مبدعاً وليس أكاديمياً. مرت السنوات، وأخذته مشاغل الحياة في برلين، وضاع وقته في اللهاث وراء "لقمة العيش" حيث اضطر إلى العمل حارساً ليلاً لكي ينفق على عائلته، إلى أن عاد خالي الوفاض إلى مصر في عام 1985.
قاسم في برلين: من محبة إلى كراهية
"صوتك يملأ سمعي، ووجودك يزحم وجداني، وأنت لا زلت أنت، طاقة لا تنفذ، رقيق كطفل، طيب كأم، شديد الذكاء، شديد الدهاء، مبدئي بلا لحظة مساومة": هذا ما كتبه عبد الحكيم قاسم إلى القاص الكبير سعيد الكفراوي في مارس (آذار) 1984. "أنا وعبد الحكيم قاسم ننتمي إلى الكتّاب الفلاحين، أولاد القرى"، يقول الكفراوي متذكراً علاقته مع المبدع الكبير، ويضيف في الحديث الذي خص به دويتشه فيله: "عبد الحكيم عاش القرية المصرية بكل أبعادها، وكان في جيل الستينات من أبرز كتابه. أما نجيب محفوظ، رحمه الله، فكان ينظر إلى إبداع عبد الحكيم باعتباره إبداعا متميزا." (للاستماع إلى الحديث كاملاً اضغط على الرابط أسفل المقالة!)
سافر عبد الحكيم قاسم إلى برلين كان قد كتب روايته الشهيرة "أيام الإنسان السبعة" في عام 1969، وبعدها صمت إبداعياً عدة سنوات وانهمك في الحياة البرلينية. ولكن، كيف كان لقاء عبد الحكيم قاسم بالغرب وبالثقافة الألمانية؟ هل كان حلقة في سلسلة "الصدام بين الشرق والغرب"، أم كان حافزاً للكاتب على المزيد من الإبداع والانفتاح على ثقافات العالم؟ على هذا السؤال يجيب محمد شعير قائلاً: "أعتقد أن تلك الفترة كانت دافعاً كبيراً له، وهو يحكي في رسائله عن الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية التي كان يذهب إليها وكيف اتسع أفقه عبر لقاء مدينة مثل برلين." ويضيف شعير في حديثه إلى دويتشه فيله: "ولكن أعتقد أيضاً أن عبد الحكيم قاسم أحس أن الغرب سحقه. في البداية كانت علاقة قاسم بالغرب محبة غير مشروطة، غير أنها تحولت إلى كراهية غير مشروطة." ويرجع شعير ذلك إلى تكوين قاسم "الأصولي"، أما سعيد الكفراوي فيرجع ذلك إلى شدة اعتزاز قاسم بنفسه وعمله، وشعوره أن برلين لم تقدره حق قدره.
ويؤكد الكفراوي أن "عبد الحكيم قاسم استفاد كثيرا في رحلته الألمانية". غير أنه "شعر خلال وجوده في ألمانيا بالإهانة نظراً إلى طبيعة المهن التي عمل بها. عمل حارساً ليلياً، وأحس بأنه في مكان لا يقدر موهبته ولا يقدر إبداعه. وبالتالي عندما عاد إلى مصر وجدناه شخصاً مختلفاً." عاد عبد الحكيم قاسم متمسكاً بثقافته العربية التراثية، بل أعلن أنه يعتزم إعادة كتابة أشهر رواياته، "أيام الإنسان السبعة"، كي "ينقيها" من الكلمات المصرية العامية. لم يستطع قاسم – هكذا يؤكد شعير في مقدمته للكتاب – أن يتوافق بعد عودته مع التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في فترة غيابه، لذا "لم يستطع العودة مرة أخرى".
إذا بليتم فاستتروا
ورغم أن الأدب العالمي يعرف رسائل شهيرة، مثل رسائل دستويفسكي، أو رسائل رامبو وريلكه ويوسا، أما رسالة كافكا إلى والده فتمثل حجر الأساس في فهم أدب كافكا. غير أن الثقافة العربية تكاد تخلو من هذا الجنس الأدبي. لماذا؟ هذا شيء يرجعه محمد شعير إلى المناخ الثقافي العربي الذي لا يسمح للإنسان بأن يقول دائماً ما يريد، بل يفرض عليه أن يكون له حديثان: حديث للعلن وحديث للخاصة. ويستطرد محمد شعير في حديثه إلى دويتشه فيله قائلاً: "ربما يرجع ذلك أيضاً إلى غياب ثقافة الاعتراف في العالم العربي، وهو أمر ربما يرجع إلى أن الاعتراف في الغرب المسيحي من الأسرار الكنسية، بينما الثقافة العربية هي ثقافة حجب وستر."
عندما أصدر المفكر المصري لويس عوض كتابه "أوراق العمر" أثار عاصفة من الاستياء لدى أفراد عائلته ومنهم الأكاديمي المعروف رمسيس عوض. تحدث لويس عوض في "أوراق عمره" بكل صراحة عن عائلته، عن أبيه العاشق للنبيذ الأحمر، عن أخته المختلة عقلياً، وعن اعتناق أخته الأخرى الإسلام لكي تتزوج من شاب مسلم، كما يتحدث عن أخيه الأكاديمي ويصف إنجازه العلمي بالمتوسط. أحكام صريحة صارمة وصادمة أصدرها المفكر الكبير على أفراد عائلته، فكانت النتيجة معارضة عائلته الشديدة لإعادة طبع الكتاب بعد نفاده وبعد وفاة صاحبه.
ويذكر شعير في "كتابات نوبة الحراسة" أن الثقافة العربية لا تزال، ربما، "أسيرة النظرة التقليدية لمفهوم الكتابة بأشكالها المحدود (رواية، قصة، قصيدة)، بينما لا تعطي مساحة للأعمال الأخرى مثل الرسائل التي تعتبرها هامشية". هناك مرات قليلة في الأدب المصري حاول فيها الكتّاب تجاوز الثالوث المحرم، الدين والجنس والسياسة، أما النتيجة فكانت تعرضهم لعواصف من النقد والهجوم؛ ويضيف أن مؤسسة الأزهر لم تغفر حتى اليوم لطه حسين نقده اللاذع لشيوخ الأزهر في سيرته الجميلة "الأيام"، كما لم يغفر كثيرون لنجيب محفوظ "اعترافاته" لرجاء النقاش عن حياة الصعلكة التي عاشها في شبابه. هذه الأسباب تجعل "أدب الرسائل" أمراً نادراً في الثقافة العربية، رغم وجود استثناءات قليلة، مثل رسائل جبران لمي زيادة، ومراسلات محمود درويش مع سميح القاسم ومحمد برادة مع محمد شكري. وكل هذا يجعل القارئ العربي يقبل على قراءة رسائل عبد الحكيم قاسم بشغف كبير، ومتعة حقيقية.
سمير جريس
مراجعة: منى صالح