عالم آثار يدق ناقوس الخطر لإنقاذ الصروح السورية
٢٩ مارس ٢٠١٤سوريا مهددة بأن تصبح خارج الزمان؛ الحاضر يتكلم عن نفسه، والمستقبل بدأت ترتسم حوله علامات استفهام، والماضي على وشك أن يصبح ناقصاً. فقد طال الدمار والنهب الكثير من النفائس التراثية والأثرية في سوريا، التي وصف أحدهم بأنها "متحف في الهواء الطلق". البروفيسور مأمون فنصة، المدير السابق لمتحف "الطبيعة والإنسان" في مدينة أولدنبورغ وعضو هيئة المتاحف الألمانية، كرّس نفسه لقضية الآثار السورية بشكل عام، ومسقط رأسه، حلب، بشكل خاص. هنا في برلين، التقته DW عربية وحاورته حول شؤون وشجون الآثار السورية ومصيرها.
لماذا حلب؟
أولاً- ولدت وترعرعت في حلب، قبل قدومي إلى ألمانيا في سن العشرين من عمري. ثانياً- هالني ما وصلني من دمار كبير لحق بالمدينة القديمة. ثالثاً- في عام 2000 أقمت معرض كبير لدعم مشروع "حماية وإحياء مدينة حلب القديمة"، ذلك المشروع الذي بدأ في العام 1992 وانتهى في العام 2010.
أصدرت منذ بضعة أشهر كتاب باللغة الألمانية حول هذا الموضوع، ما الهدف الرئيسي منه؟ وما هو منهج البحث الذي اتبعته؟ وكيف حصلت على المعلومات والصور؟
الكتاب موجه للقارئ الألماني ويهدف إلى توثيق الدمار الذي حلّ بالمدينة القديمة في حلب، وبالتالي جذب انتباه ووعي الألمان إلى الضحايا الحضارية للنزاع في سوريا، إلى جانب الخسائر الهائلة في الأرواح البشرية والدمار بالبنية التحتية.
بعد نبذة تاريخية سريعة عن مدينة حلب، يستعرض الكتاب عملية الترميم للمدينة القديمة في حلب بين الأعوام 1992 و2010، والتي لم تكن ممكنة لو لا دعم الوكالة الألمانية للتعاون الدولي، و"مؤسسة الأغا خان".
الجزء الأساسي من الكتاب يوثق للدمار من خلال ما يشبه ألبوم صور للمواقع الأثرية قبل الحرب وحالها الآن، وذلك لإظهار حجم الدمار والتخريب. قدم بعض الأصدقاء والعاملين في هذا المجال المعلومات والصور، كما حصلت على بعضها الآخر من تواصلي المباشر مع وسائل الإعلام الألماني، بالإضافة لبعض المواقع على الإنترنيت والفيسبوك "كـشاهد عيان سورية". قمت بوضع هذه الصور بجانب صور لنفس الأثر من أرشيفي الخاص، الذي يحوي ما يقارب 10000 صورة. علاوة على جذب انتباه الألمان وتوثيق الدمار. يهدف الكتاب لوضع تصور من الآن عما يجب فعلة لإعادة ترميم، ما يمكن ترميمه من هذه الآثار في المستقبل، بدلاً من الجلوس وعدم فعل أي شيء والانتظار حتى تضع الحرب أوزارها.
ما هي أهم المعالم الأثرية، التي تعرضت للدمار كلياً أو جزئياً في حلب؟
أولاً-القلعة: اقتصر الدمار على مدخلها وبابها، الذي يعود للعهد الأيوبي. ثانياً- الجامع الأموي: في تشرين ثاني2012 احترق قسم كبير من فنائه الداخلي دُمر الكثير من أجزائه أيضا. أما الخسارة الكبرى فكانت انهيار مأذنة الجامع في نيسان 2013. تعود المأذنة للعهد الأيوبي وتمتاز بهندستها الرائعة وبزخرفاتها البديعة. ولكن لحسن الحظ فقد تم إنقاذ المنبر وإخفائه في مكان آمن، وكذلك تم بناء حائط إسمنتي حول الساعة وقبر النبي زكريا. وتتم محاولات للحفاظ على أحجار المأذنة لاستخدامها لاحقا في الترميم. ثالثاً- البازار(سوق المدينة الأثري): يعود تاريخ تأسيسه للعهد الهلنستي، أما هويته وشخصيته المعمارية قبل دماره فهي بيزنطية وبلغ طوله مع تفرعاته حوالي 12 كيلومتر. أتى حريق هائل على قسم كبير منه مما أدى إلى انهيار 60 بالمائة منه. لم يكن بالإمكان إطفاء الحريق؛ بسبب انقطاع الماء في ذلك اليوم. رابعاً- دار الجوازات: تعود لنهاية القرن التاسع عشر وتمت ترميمها سابقا بدعم من "مؤسسة الأغا خان"، وقد تعرضت لدمار كبير جداً. خامساً- دار الفتوى: لحقها دمار بحوالي 50 بالمائة. سادساً- المساجد والجوامع: تضرر ما يقارب 35 منها. على سبيل المثال، لا الحصر، مأذنة جامع "المهمندار"، و التي تعد فريدة من نوعها في سوريا وتعود للقرن 13 وتظهر التأثر بفن العمارة والزخرفة في سمرقند. سابعاً- حصد الدمار ما يقارب خمسين بالمائة من البيوت القديمة والتي يبلغ عددها حوالي 6000 ويعود تاريخ بنائها بين القرنين 14 و18.
ما وضع متحف حلب؟
يقع المتحف على خط التماس، ولحق بعض الضرر ببعض الآثار الموجودة بالحديقة. وحسب معلوماتي، فقد قامت الحكومة بنقل بعض القطع الأثرية الهامة إلى البنك المركزي في حلب.
ما هي المواقع الأثرية المصنفة تحت "قائمة التراث العالمي"، وما هي الأضرار التي لحقت بها سواء تدميراً أو نهباً؟
تضم القائمة الصادرة عن اليونسكو ستة مواقع أثرية: بصرى، دمشق القديمة، تدمر، قلعة الحصن وقلعة صلاح الدين، حلب القديمة، المدن المنسية، والتي تقع شمال غرب حلب وتضم مئات المواقع والمدن وتعود بمعظمها للعهدين الروماني والبيزنطي كقلعة سمعان.
وأنا أعمل الآن على كتاب عن هذه المواقع من حيث تاريخها، والترميم والحفريات والأبحاث التي جرت فيها مؤخرا، وكذلك عن ما لحق بها من دمار وخراب نتيجة الحرب. بشكل مختصر، تعرضت بصرى لدمار بسيط كتحطم "سرير بنت الملك"، وكذلك دمشق؛ فقد لحق ضرر خفيف بطرف الحي المسيحي في المدينة القديمة. نال تدمر قسط وافر من النهب والدمار وخصوصا بالأعمدة، وكذلك قلعة الحصن والمدن المنسية.
ما المسؤولية التي تتحملها أطراف النزاع حسب المواثيق والأعراف الدولية، ومَن المسؤول عن هذه المجزرة الحضارية؟
في عام 1980 وقعت الحكومة السورية على "اتفاقية لاهاي" لعام 1954 وبروتوكوليها الإضافيين، والتي تنص بمجملها على حماية الآثار والممتلكات الثقافية أثناء النزعات المسلحة. وبالتالي يتوجب على الحكومة السورية حماية هذه الآثار من الدمار والنهب. ومن ناحية أخرى، يجب أن يتلقى الجنود خلال تأهيلهم المهني محاضرات عن كيفية التعامل مع الآثار، وحسب علمي هذا ليس هو الحال عند الجيش النظامي، فضلا عن المعارضة المسلحة، والتي لا يتمتع الكثير من أفرادها بقسط مقبول من التعليم والمعرفة ليدركوا أهمية الموضوع. ولكن برأي، يشكل المقاتلون الأجانب خطراً كبيرا؛ كونهم لا يمتلكوا أي ارتباط مع تاريخ البلد، وربما لا يعني لهم هذا الأمر شيئاً.
في ظل هكذا حرب أهلية، من الصعب تحديد المسؤول عن التدمير وخصوصاً أنني غير متواجد هناك على الأرض. وقد ذكرت في الكتاب أنني"لا أبحث عن المجرم". ولم أجرِ أي اتصالات لا مع الحكومة ولا مع المعارضة في هذا الخصوص.
ما مسؤولية ودور اليونسكو؟
أقصى ما يمكن أن تفعله هو تنبيه الرأي العام العالمي، وربط الأخصائيين بالممولين، إذ أنها لا تقدم دعم مالي يذكر في هذا المجال. وأيضا، تصدر "قائمة حمراء" بالقطع الأثرية التي ممكن سرقتها وبيعها، وحتّى هذه فقيرة جدة ولا تحوي سوى بعض عشرات، في حين أن سوريا مليئة بالآثار و"متحف بالهواء الطلق". كما عقدت اليونسكو مؤتمرا في عمّان في الصيف الماضي وطلبت من الحكومة والمعارضة تحمل مسؤوليتهما في هذا المجال.
هل يمكن إعادة ترميم المرمم سابقا واستعادة روح حلب من جديد، وماذا يتطلب ذلك من إمكانيات؟
أخشى أن تكون قد فقدت حلب جزءا كبير من هويتها وشخصيتها الحضارية. وتكمن صعوبة الترميم بالناحية المادية، وأيضا البشرية. ربما نحتاج بين 20 و 30 مليار يورو ولفترة زمنية ما بين 5 و 10 سنوات. أنا ومجموعة من الخبراء الفنيين بصدد التحضير لمؤتمر لإعادة أعمار حلب القديمة والحديثة. سيكون بدعم من وزارة الخارجية الألمانية، والوكالة الألمانية للتعاون الدولي و"رابطة أصدقاء مدينة حلب القديمة". أعمل الآن على بناء شبكة من الخبراء الدوليين واستنهاض كل الطاقات من أجل خلق شبكة اتصالات فيما بينها.
ما نوعية وحجم المساعدة، التي قدمتها وتقدمها ألمانيا في هذا المجال؟
كما سبق وذكرت، فإن ألمانيا ساعدت بترميم المدينة القديمة في حلب بين الأعوام 1992 و2010. آنذاك لم يذهب الخبراء الألمان للترميم بأنفسهم، بل دربوا خبراء سوريين ليقوموا بالعملية بأنفسهم، واقتصر دورهم على الإشراف والتنسيق. وقد كلفت عملية الترميم ما يقارب 50 مليون يورو. وكذلك ساعدت وزارة الخارجية بطبع ونشر كتابي هذا. وهناك الآن مشروع قيد التنفيذ لأرشفة الآثار السورية بتعاون بين "معهد الآثار الألماني" و"المتحف الإسلامي" في برلين. وأنا على تواصل مع الجهات الألمانية للدفع باتجاه زيادة الدعم كما ونوعا في هذا المجال.
يُطلق عليك لقب "بابا علم الآثار التجريبي" لريادتك في هذا التخصص، حبذا لو تعرفنا به؟
عندما لا يتوفر لدينا معلومات ومدونات كافية عن بعض الفترات والحقب الآثارية، نستخدم هذه التقنية لمعرفة المزيد عن طريق عيش الناس وتطورهم من حيث استخدام المواد التكنولوجيا كالفأس والمعول وغيرها. مثال على ذلك بناء بيت: نأتي بفأس حقيقي من فترة معينة ونقطع به الشجرة، ثم ننقل المواد على وسائل النقل المتوفرة في ذلك الزمن. ونبني البيت بجذوع الأشجار لنحسب كم كان يستغرق بناء البيت في ذلك الزمان. البعض كان يعتقد أنها أشهر، ليتبين لنا بهذه الطريقة أن العملية لم تكن تستغرق سوى بضعة أيام.
أجرى الحوار: خالد سلامة