ظاهرة أنغيلا ميركل في عالم السياسة
١٦ أغسطس ٢٠١٣المتغيرات الاجتماعية بعد الألفية الثانية، وعلى رأسها تداعيات الإرهاب وأزمة الديون وأزمة اليورو، تركت آثارها في تفكير المواطن الألماني وسلوكياته، كغيره من مواطني الدول الأوروبية. فهذه الفترة العاصفة بالأحداث ولدت نوعاً من الحنين إلى الأمان والتوجه الصحيح. ويُلحظ هذا بشكل خاص بين جيل الشباب، الذين عرفوا المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل منذ توليها المنصب عام 2005. ويصف علماء الاجتماع هذه الجيل بـجيل بيدرماير الجديد، فاستطلاعات الرأي تكشف أن المراهقين يؤكدون على أمور في مقدمتها ازدهار العائلة والحصول على بيت خاص وعمل مستقر، أي الانسحاب إلى الحياة الشخصية.
البعض منهم يقول بصراحة أن ميركل تتحمل مسؤولية نشوء جيل البيدرماير الجديد هذا، فبعد ثمان سنوات في منصبها تركت المستشارة بصماتها على روح الشعب الألماني، كما كتب المحلل السياسي في مجلة "دير شبيغل" الألمانية ديرك كوربيوفايت في مايو/ آيار 2013 تحت عنوان "جيل البيدرماير الثاني". وحسب كوربيوفايت فإن ميركل أصابت الحراك الديموقراطي في ألمانيا بالشلل، فالطبقة الوسطى أصبحت لا تريد شيئاً آخر سوى العيش من دون منغصات. والمرشح عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي بيير شتاينبروك استخدم هو الآخر في إحدى المناسبات تعبير "بيدرماير"، خلال انتقاده للمستشارة ميركل.
من جانبه يرى أستاذ العلوم السياسية كارل-رودولف كورته أن صورة ميركل العلنية باتت مرادفاً لتهميش البرجوازية الجديدة للفرد. ويضيف بالقول: "على الرغم من أنها تروج لنفسها في الحملة الانتخابية من خلال شخصيتها، لكننا لا نعرف شيئاً حقاً عن حياتها الخاصة"، فمن مزايا البرجوازية القديمة إظهار القليل عن الحياة الشخصية أو معرفة خصوصيات الآخرين، وأيضاَ توجيه اهتمام الآخرين للمهام الذاتية، كما يشير كورته.
إشارات استقرار
تستخدم ميركل توق الألمان الجديد للأمن والتوجه الصحيح في مجالات عدة، فقد وعدت مواطنيها أن ألمانيا ستخرج قوية من الأزمة. وبالفعل هذا ما أوضحته الإحصائيات الاقتصادية في سوق العمل، إذ بقيت جيدة منذ سنوات. أما خارج ألمانيا فتقوم ميركل بدور حامية بلادها. وسواء بعد قمم دول الثماني الكبار أو دول الاتحاد الأوروبي فإنها دائماً ما تفسر نتائج المفاوضات على أنها تفوق للمواقف الألمانية، وتعطي انطباعاً أن أموال ألمانيا آمنة في يديها. وفي بريطانيا والولايات المتحدة تعتبر ميركل أقوى شخصية نسائية في العالم.
ومن ناحية المظهر أيضاً، تبعث المستشارة ميركل إشارات توحي بالاستقرار، فقصة شعرها لا تغيرها منذ سنوات إلا ما ندر. كما أن ملابسها الرسمية متشابهة ولا تختلف إلا باللون فقط. ومهما عصفت أحداث بهذا العالم في الخارج، فإن ميركل تبدو في نشرات الأخبار بالصورة ذاتها كالعادة، ومظهرها يوحي بعدم الاضطراب.
قاعد بروتستانتية
يصف كورته عوامل نجاح شخصية ميركل "بأنها تبدو دائماً جادة ومتحمسة لخدمة مصالح الناخب الألماني، وهذه هي الصورة العالقة في أذهان الغالبية العظمى"، والتي تظهر فيها أيضا كمرشدة ومنقذة في أوقات الأزمات. صورة جديرة بالمصداقية، كما يرى كورته، موضحا أن سبب ذلك يعود إلى أصل المستشارة ميركل ونشأتها. "صفتا العمل من أجل الآخرين والاستغناء عن التظاهر بالسلطة تتعلق بنشأتها في عائلتها المسيحية البروتستانتية"، فهذه المزايا مرتبطة بأخلاقيات العمل والزهد البروتستانتية، كما يرى كورته. ويبدو أن ميركل نفسها تعرف ذلك أيضاً، إذ قالت مرة إنها تعلمت رباطة الجأش والحس بالمسؤولية والتحفظ في بيت والديها.
فاعلة تحصد الثمار
نشأت البروتستانتية في ألمانيا كحركة مضادة لازدواجية المعايير في الكنيسة الكاثوليكية. وروج أنصارها للبساطة والتركيز على القيم الداخلية بدلاً من الأبهة أو التظاهر. إنها ثقافة تقوم على البساطة والإقبال على الحياة، ففضائل مثل البساطة والزهد والاجتهاد والحرص والتغني بالعمل تعد بالخلاص البروتستانتي. وهذه الفضائل شهدت ازدهاراً في السياسة والرأي العام خلال فترة تولي ميركل منصبها منذ 2005. وفي هذا كانت ميركل الفاعلة الرئيسية وأول من يحصد الثمار.
في عام 1999 حين انتقلت الحكومة الاتحادية من مدينة بون الكاثوليكية في الغرب إلى القلب البروتيستاني للبلد في برلين، تنبأ بعض المحللين أن ألمانيا باتت الآن مختلفة، أي أصبحت قيم شرق ألمانيا والبروتستانتية أكثر وضوحاً، وهذا ما حدث بالفعل. وهذا التحول البروتستانتي ظهر في قمة السلطة وفي حزب ميركل أيضاً، في الاتحاد المسيحي الديمقراطي. حينما كانت ألمانيا تُدار من العاصمة بون كان عدد الكاثوليكيين في الحزب هو الأكبر، لكن في القيادة الحالية للحزب المسيحي يوجد خمسة من البروتستانت واثنان من الكاثوليك. أما على صعيد وزراء الحكومة الاتحادية فبيتر آلتماير، وزير البيئة هو الكاثوليكي الوحيد. ورئيس الجمهورية، صاحب أعلى منصب في الدولة، قس بروتستانتي، نشأ مثل ميركل في جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة.
صورة ثابتة
غريزة ميركل للسلطة وبراعتها الإستراتيجية التكتيكية وقدرتها على التكيف جعلت منها سياسية ناجحة للغاية في ألمانيا وأوروبا، وتمكنها من القيام بدورها كمستشارة للألمان يعود إلى أنها تناسب التغير الجاري في بلادها بالوقت الراهن. وهكذا فإن صورة ميركل في قطاعات واسعة من الشعب لم تخدش، وهذا ما توضحه استطلاعات الرأي بين الحين والآخر. لكن كورته يحذر في الوقت ذاته من أن روح العصر البروتستانتية المهيمنة في الوقت الراهن سينشأ عنها توق جديد لشخصيات سياسية تتمتع بالكاريزما.