"طشاري" رواية تصور تهجير المسيحيين العراقيين
٥ سبتمبر ٢٠١٣بطلة الرواية الطبيبة العراقية المتقاعدة التي تبلغ الثمانين من العمر تهجر بلدها وتلجأ إلى فرنسا، لا سعيا إلى مستقبل، بل كما يبدو حفاظا على صورة ماض كان بالنسبة إليها هنيئا رائعا حوّله القتل والرصاص والتفجيرات في العراق إلى حلم زال وحل محله كابوس واسع النطاق لا تبدو له نهاية قريبة.
البطلة هنا لم تعد تعرف العراق الذي أحبته، فحملت صورته الماضية إلى بلد غريب فتح لها بابا للجوء والحفاظ على الكرامة.
عنوان "طشّاري" يشير إلى التشظي والتشتت في كل الجهات، أو ما يقابل معنى القول العربي القديم "تفرقوا أيدي سبأ". والرواية هي عمل من أعمال قصصية عراقية أخيرة تتحدث عن التهجير خاصة تهجير الأقليات. وهي تتناول تهجير المسيحيين العراقيين.
أفراد العائلة والأقرباء والمعارف، خاصة أبناء الجيل الجديد وبناته الذين يهربون من الموت ويبحثون عن مستقبل وحياة كريمة، توزعوا في أنحاء الأرض قاطبة.
البطلة الدكتورة وردية اسكندر تصور الأمر بشكل رمزي فتقول "الساعة الآن هي السابعة في باريس. التاسعة في بغداد. العاشرة في دبي. ما زالوا في منتصف الليلة الماضية في مانيتوبا في كندا وهي الواحدة بعد منتصف الليل في هايتي".
"كأن جزارا تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن. رمى الكبد إلى الشمال الأمريكي وطوح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج. أما القلب فقد اخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة تلك المخصصة للعمليات الدقيقة وحزّ بها القلب رافعا إياه باحتراس من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج ايفل وهو يقهقه فرحا بما اقترفت يداه."
العائلة بأبنائها وبناتها موزعة في أنحاء العالم.. ابن مهندس في هايتي، وابنة طبيبة وزوجها في مناطق الصقيع الكندية النائية، وآخرون وأخريات في الخليج ومناطق أخرى، وابنة أخيها وزوجها وابنهما في باريس.
دعوة من ساركوزي إلى الاليزيه
وصلت إلى باريس لتعيش معهم. الرئيس الفرنسي وقتها، نيكولا ساركوزي وبمناسة زيارة البابا بنديكت إلى باريس، دعا عددا من المسيحيين العراقيين اللاجئين إلى لقاء واحتفال. أوصلها سائق التاكسي إلى القصر الرئاسي الفرنسي في الاليزيه. تقول بمقارنة واستغراب "هذا هو الاليزيه إذن. رأت قصرا رماديا يقع في شارع متوسط يزدحم بالسيارات والمشاة. لا عساكر ببنادق رشاشة وشوارب كثة ونظرات تقدح شررا. لا أحد يروع المارة ويهشّهم إلى الرصيف المقابل - إلى عدة شوارع بعيدة عن المكان. لا مناطق حمراء وخضراء وبرتقالية. إن أمامها الكثير لكي تندهش وتتعجب قبل أن تتعود."
في قاعة الاحتفال جلست الدكتورة وردية بجوار عدد من العراقيين المسيحيين اللاجئين الذين خصصت لهم الصفوف الأمامية. لقد قيل لهم أنهم ضيوف ساركوزي فصدقوا الحكاية ودخلوا بعد شهر من لجوئهم إلى هذا البلد القصر التاريخي الذي لم يطأ ملايين الفرنسيين عتبته."
تسكن مع ابنة أخيها وعائلتها. الابن المراهق ماهر في ألعاب الكمبيوتر، ولا يلبث، بناء على تشجيع العمة، أن يرسم شجرة العائلة على الكمبيوتر ويصنع قبورا افتراضية لجميع الأقرباء. لكن هؤلاء في النهاية يرفضون هذه القبور فهم مازالوا يحلمون بأن يدفنوا في العراق لا في بلدان غريبة مع أن وطنهم لا يريدهم ويقدم لهم الموت أو الرحيل لمن كان محظوظا منهم.
كتابة أنعام كجه جي مؤثرة حافلة بالحساس وهي تنقل التفاصيل اليومية ووجوه الحياة المختلفة بدقة وتبني منها صورا أوسع وأعمق من كل منها على حدة. إنها لا تروي حياة شخص أو أشخاص فحسب، بل قصة مدينة بل مدن وبلاد كاملة. قراءة نتاج الكاتبة يقدم متعة دون شك. لكن لابد من ملاحظة هي أن "النمو" في الرواية قليل.. فالذي تورده وتكرره عادة سمات لوضع رهيب وتتعدد السمات والصور لهذا الوضع الثابت.
ليس المقصود هو أن تغير الكاتبة هذا الوضع، فهذا غير معقول وغير مطلوب، لكن المقصود هو أن وصف هذا الوضع وأحداثه تكاد لا تتغير أو تتجدد، إلا في تفاصيل ليست أساسية. النمو والتغيير الذي تشهده مراحل حياة وردية اسكندر أكيد وواضح، لكنه يتكرر في صور مختلفة ولعل سبب ذلك هو أن هذا التغيير يمتد عبر فترة طويلة بلغت ثمانين عاما.
وصف المتناقضات
إلا أن هناك مرحلة في الرواية "تكثف" فيها النمو وجاء ملحوظا واضحا، وذلك عند رسم حياة ابنتها هند في أقاصي كندا. إننا نشهد هنا نموا تميز عن حالات أخرى في الرواية. وعندما تروي هند حياتها كطبيبة في مانيتوبا فهي ترسم لوحات ممتعة مفصلة لا عن حياتها فحسب، بل عن حياة السكان الأصليين الذين يُعرفون بالهنود الحمر وآلامهم ومشكلاتهم وأحلامهم.
يستغرق القارئ في قراءة هذا القسم الذي يبدو في أحداثه وأجوائه كأنه مستقل عن الرواية. وتصف العلاقة الإنسانية الدافئة التي قامت بينها وبين السكان بعد تعب وعذاب طويلين لإثبات نفسها حكوميا وشعبيا.
تصف لنا المستشفى الذي تعمل فيه فتقول "يقع المستشفى في مدينة صغيرة خارج المحمية... وبدل الفضاء الترابي هناك شارع رئيسي معبد... أما دار الأطباء فكانت مجموعة غرف في مبنى من طابق واحد لكل منها بابها المستقل الذي يفضي إلى الشارع. وفي الغرفة زاوية للطبخ وحمام وفسحة تحتوي على أريكة يمكن تحويلها إلى فراش نوم".
وبتفاصيل مماثلة كأنها من رواية أخرى تتناول حياة السكان ومشكلاتهم. تقول الكاتبة "تعتاد هند مكانها الجديد وتصبح مشكلات التأقلم قصصا تحكيها لزوجها وتكتبها لوالدتها في الرسائل. والطبيبة الآتية من بلاد ألف ليلة وليلة صارت حكاية يتسلى بها الأهالي... خافت أن تتحول إلى ولية في تلك البقعة النائية حيث تقسو الطبيعة على القوم الذين يعبدونها."
وتصف المؤلم والمضحك فتقول مثلا "استقر اسم جاك في بالها. كان مريضها الأول الذي افتتحت به سجل الزيارات... كان يعاني من ارتخاء في المعدة" عالجته فتحسنت حالته "وبعد فترة أرسل لها جاك ابنته وزوجها. أنها المرة الأولى التي ترى فيها شابين في أواسط العشرين مصابين بتشمع في كبديهما. لا ينفع الكلام مع مدمنين على الشراب... لا أحد يعترف بأنه مريض... أن قوانين البلد تكفل حرية المواطن في التصرف بحياته طالما كان بالغا سن الرشد، وليس من حقها انتقاد أسلوب عيش أي مريض. كل ما في وسعها تقديم النصيحة دون ضغط أو إرغام.
"لقد عالجت حالات كثيرة للسكري والضغط وتكلس المفاصل، لكنها لم تقابل عشرات يعانون من الأمراض الزهرية إلا في مانيتوبا. لا تصدق ما تراه. تتمهل وتنتقي العبارات المخففة وهي تخبر المريض بأنه مصاب بدرجة متقدمة من داء السكري... لكنه يقابل الخبر بالضحك والسرور... هذا المرض تقليد قومي ولا حرج في الانضمام إلى جموع المصابين بالسكري في المنطقة."
الرواية عموما جذابة وتشكل قرائته متعة خاصة.
ع. ج / ح.ع.ح (رويترز)