"صاروخ بولندا" ـ هل يُفاقم الهُوًة بين الغرب وأوكرانيا؟
١٩ نوفمبر ٢٠٢٢بدأ الغموض ينجلي بشأن ملابسات الصاروخ، الذي ضرب إحدى القرى البولندية، فوفق تقرير بثته محطة CNN الأمريكية، فقد اتصل المستشار الأمني للرئيس جو بايدن جيك سوليفان بالرئيس الأوكراني مساء (الثلاثاء 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) بعد أن أكد في خطاب له بالفيديو أن مصدر الصاروخ الذي "قصف" بولندا هو روسيا. خطوة، لو تأكدت، كانت ستشكل تصعيدًا خطيرا من جانب موسكو. وهو ما كان سيفرض حينها ردا مناسبا من قبل حلف الناتو. وعلى الرغم من التقييمات الحذرة لبولندا وحلف الناتو، لا يزال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى اليوم غير مقتنع رسميا بأن الصاروخ مصدره الدفاعات الأوكرانية. وكرر في التلفزيون الأوكراني (الأربعاء 16 نوفمبر/ تشرين الثاني) أنه "ليس لدي شك في أنه ليس صاروخنا. أعتقد أنه صاروخ روسي بناء على تقارير من جيشنا". وانتقدت المجر تصريحات زيلينسكي واصفة إياها بـ"غير المسؤولة". وقال جيرجيلي غولياس، رئيس مكتب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان "في مثل هذه الحالات، يتحدث قادة العالم بمسؤولية". لقد أخطأ رئيس أوكرانيا عندما ألقى باللوم على الروس على الفور. هذا مثال سيء".
موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى (ARD) (16 نوفمبر/ تشرين الثاني) كتب معلقا "نعرف أن الصاروخ هو من تركة الترسانة السوفيتية، لذلك توجهت الشكوك منذ الوهلة الأولى نحو موسكو. فهل تهاجم روسيا الآن إحدى دول الناتو؟ لقد تساءل كثيرون عن هذا الأمر بقلق. هل الحرب ستمتد إلى الغرب؟" ويتابع الموقع الألماني: "للحظة انتشر قلق ملموس بشأن خطر اقتراب شبح الحرب ومعه خطر انجرار الجيوش الغربية، بما فيها الجيش الألماني، إلى حرب ضد روسيا. ربما تصبح مدننا هدفًا لهجمات قاتلة، لقد تم تفادي هذا السيناريو الخطير، وقد يكمن سبب ذلك في رد الفعل الهادئ بشكل لأعضاء الناتو. وينطبق هذا قبل ذلك بشكل خاص على الحكومة البولندية". فهل يمكن اعتبار اختلاف وجهات النظر العلني هذا، بين حلف الناتو وكييف عاملا قد يدفع إلى تآكل الدعم الغربي لأوكرانيا؟
حلف الناتو يعيش ساعات رهيبة!
بدأت القصة مساء الثلاثاء (15 نوفمبر/ تشرين الثاني)، حين سقط صاروخ على قرية برزيفودوف البولندية، البعيدة بحوالي ستة كيلومترات عن الحدود الأوكرانية، ما تسبب بمقتل شخصين. بعدها قامت الدنيا ولم تقعد خوفا من سناريوهات الاقتراب من حرب وخيمة العواقب، باعتبار أن بولندا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأن أي اعتداء عليها يعني تضامنا تلقائيا من بقية الدول الأعضاء وفق المادة الخامسة من ميثاق الحلف. الحادث تزامن مع قصف صاروخي روسي واسع استهدف كامل التراب الأوكراني، شمل منشآت مدنية، ما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن ملايين البيوت. الأنظمة الدفاعية المتطورة لحلف الناتو قادرة على رصد أي صاروخ قد تطلقه روسيا سواء من أراضيها أو من أراضي حليفتها بيلاروسيا. وسارع القادة الغربيون لعقد اجتماع طارئ على هامش قمة مجموعة العشرين، معبّرين عن تضامنهم مع بولندا مع الدعوة إلى توخي الحذر، وذلك تزامنا مع نفي قاطع لموسكو بأن تكون مسؤولة عن إطلاق الصاروخ، واصفة الاتهامات الأوكرانية بأنها "استفزازات". غير أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أخبر نظرائه في السر، بأن الصاروخ هو من أصل أوكراني. وعلنا، دعا إلى توخى الحذر بشأن المسؤولية الروسية المفترضة.
ورغم تأكد عدم مسؤولية موسكو، إلا أن الحادث فتح الباب أمام تكهنات بشأن قدرة حلف الناتو على التحرك بقوة وصرامة ضد استفزازات روسية محتملة. صحيفة "Neatkariga Rita Avize" (صحيفة الصباح المستقلة) الصادرة في لاتفيا كتبت متسائلة "كم عدد الحوادث التي يرغب الناتو في ابتلاعها غدًا فقط لتجنب "التصعيد؟ (..) الحقيقة هي أن صاروخًا أوكرانيًا مضادًا للطائرات انفجر على الأرجح في بولندا، ما سمح للغرب بحفظ ماء الوجه والتظاهر بعدم حدوث أي شيء مجنون حتى الآن. المهم هو "عدم تصعيد الموقف" (..) الحادث أظهر بوضوح نقاط ضعف الناتو. وهي عدم اليقين الكبير بشأن كيفية رد الفعل في حالة وجود تهديدات غامضة".
وارسو كانت على علم مبكرا بمصدر الصاروخ
رغم تعاظم التكهنات المتناقضة بشأن الحادث، سارعت السلطات البولندية إلى التعبير عن قدر كبير من التفهم لموقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وبهذا الشأن أوضح رئيس مكتب الأمن القومي البولندي، جاسيك سيرويرا، أن تصريحات الزعيم الأوكراني بشأن سقو-ط الصاروخ مفهومة، لأن أوكرانيا مضطرة حاليًا للدفاع عن نفسها ضد الغارات الجوية الروسية المكثفة وقال "الفرضيات التي تبدو واضحة من وجهة نظر الدفاع الوطني، تبدو واضحة أيضًا لرئيس هذه الدولة". ويقصد المسؤول البولندي بـ"الفرضيات" ادعاء زيلينسكي أن مصدر القصف كان روسيا.
ووفق بحث استقصائي أجرته صحيفة "غازيتا ويبوركزا" البولندية، كانت الحكومة البولندية على علم وفي وقت مبكر جدًا من مساء الثلاثاء (15 نوفمبر/ تشرين الثاني) بأن صاروخًا من نظام الدفاع الجوي الأوكراني أصاب قرية برزيفودوف. المعلومات كان مصدرها طائرة رادار من طراز أواكس تحلق فوق بولندا رصدت العملية كاملة. ونقلت الصحيفة عن مشاركين في اجتماع مجلس الوزراء الأمني البولندي أن ذعرًا انتاب المشاركين، وترددوا في طريقة إيصال ذلك للرأي العام. لذلك قرروا انتظار ما سيقوله البيت الأبيض الأمريكي. غير أن الرئيس جو بايدن الذي كان حينها في بالي لحضور قمة مجموعة العشرين، وكان لا يزال نائماً في ذلك الحين. وبعدها أعلن بايدن أن مسار الصاروخ أظهر أن الروس لم يكونوا مصدره.
مخاطر ظهور هوة بين وارسو وكييف
بعد الساعات الأولى من إعلان كييف موقفها، ظهرت أصوات في الغرب وفي حلف الناتو تدعو إلى الحذر. فقد رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن مزاعم نظيره الأوكراني بشأن مسؤولية موسكو. فالحادث لم يلق بظلاله على قمة مجموعة العشرين فقط، بل أيضا على العلاقات البولندية الأوكرانية. فلو تأكدت صحة مزاعم كييف، لفتح ذلك باب الحرب بين حلف الناتو وروسيا على مصراعيه بسيناريوهات غير محسوبة العواقب. بولندا سارعت إلى وضع قواتها المسلحة في حالة تأهب، فيما عقد حلف الناتو اجتماعات طارئة لدراسة الوضع. ورغم أن الرئيس البولندي أندريه دودا أعلن الأربعاء (16 نوفمبر/ تشرين الثاني) أنه "من المرجح جدًا" أن تكون الدفاعات الأوكرانية هي مصدر الصاروخ؛ إلا أن نظيره الأوكراني أصر على أن الصاروخ كان روسيّاً.
من الواضح أن أوكرانيا تسعى لدعم أوسع لها من قبل حلف الناتو، لكن بهذه الطريقة قد تثير غضب جارها البولندي وتزرع الشكوك في صفوف حلفائها الغربيين. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "Rzeczpospolita" (رشيبوسبوليتا) الصادرة في وارسو (17 نوفمبر/ تشرين الثاني) "للأوكرانيين الحق في الدفاع عن أنفسهم ضد العدوان الروسي باستخدام كل الوسائل لمنع قصف مدنهم. سقوط صاروخ على بولندا كان حقيقة مأساة مروعة (..) هناك للأسف أصوات تريد توظيف هذه المأساة لزرع القسمة بين بولندا وأوكرانيا. لكن ذلك سيكون ضد منطق دولتنا بشكل كامل. من مصلحة بولندا دعم أوكرانيا بكل الطرق الممكنة في حربها مع روسيا. لقد أثبت الكرملين أنه معتد وحشي لن يتوارى في استعمال كل الوسائل لتحقيق أهدافه الإمبريالية. لا شيء سوى مقاومة عسكرية شديدة يمكنه إيقاف ذلك (..) إن الأوكرانيين يدافعون عن الغرب، بما في ذلك بولندا. لذلك، لا ينبغي أن تكون استجابتنا لمأساة برزيفودوف تحمل ضغائن ضد أوكرانيا، ولكن منحها المزيد من الدعم لزيادة فرصها لطرد الغزاة (الروس)".
الرأي العام الألماني في اتجاه قد لا يروق لبوتين
في ضوء النجاحات التي يحققها الجيش الأوكراني ضد القوات الروسية، ترى نسبة متزايدة من الألمان أن قيم الحرية تستحق النضال بل والقتال من اجلها، في تغير لمزاج قد لا يروق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأنصاره. فحتى المدافعين في السابق عن ضرورة تقديم أوكرانيا لتنازلات مؤلمة لوقف الحرب، باتوا ليوم أكثر تفاؤلا بشأن مآلات الحرب. ولا شك أن صناع القرار في الكرملين كانوا يراهنون على انقسامات في صفوف القوى الغربية خصوصا أما ارتفاع أسعار الطاقة وتسارع معدلات التضخم. ولكن مع كل بلدة ومدينة يستعيدها الأوكرانيون، تزداد معها ثقة الألمان في قدرة كييف على تحدي موسكو ورد الصاع بالصاع.
وهناك مزيد من المعلقين الألمان الذين يرون أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو هجوم على قيم الحرية والديموقراطية في أوروبا، وأن على الأخيرة تقديم التضحيات لحماية قيمها وأسلوبها في الحياة. وبهذا الصدد كتب موقع "ميركور.دي" الألماني (17 نوفمبر) محذرا من أن "مشاعر الفرح والنشوة في كييف مفهومة، لكن الغزاة المحتلين، رسخوا مع ذلك مواقعهم، لا يزالون خصمًا تصعب هزيمته. فبدون مفاوضات، يمكن أن تستمر هذه الحرب لسنوات. وهذا ليس في مصلحة أي أحد". وذكًر الموقع بتقارير إعلامية كشفت عن أولى اتصالات بين المخابرات الأمريكية ونظيرتها الروسية في مؤشر على بداية تشكل أمل في الأفق لبدء مفاوضات توقف هذه المأساة.
بوتين يعول على الشتاء لضرب معنويات الأوكرانيين
من وجهة نظر عسكرية محضة، يبدو القصف الصاروخي الروسي الواسع للمدن الأوكرانية عبثيا. ولكن مع أول تساقط للثلوج في كييف، فإن قدرة السكان المدنيين الأوكرانيين على الصبر وتحمل أعباء الحرب قد تتعرض لاختبار شديد. جيش بوتين يدمر بشكل منهجي إمدادات الكهرباء والغاز والمياه في أوكرانيا، ما سيؤثر على حياة الملايين من الناس. فبعد سلسلة من الإخفاقات العسكرية كان آخرها الانسحاب المهين من خيرسون، العاصمة الإقليمية الوحيدة التي تمكنت روسيا من السيطرة عليها، فإن الكرملين بات يعول على ضرب معنويات السكان المدنيين عبر هدم منهجي للبنية التحتية في البلاد.
ويعتمد حاليا حوالي 17.7 مليون شخص في أوكرانيا على المساعدات الإنسانية، فيما نزح أكثر من ستة ملايين شخص بسبب الحرب. خطة بوتين تقوم على حساب بسيط: كلما زادت المعاناة الاقتصادية للأوكرانيين؛ تأثرت معنويات المقاومة الأوكرانية من جهة، وزاد ضغط النازحين واللاجئين على الغرب من جهة أخرى. لذلك حذر موقع إذاعة "دويتشلاندفونك" الألمانية (16 نوفمبر/ تشرين الثاني) من التراخي بشأن الحرب الدائرة وكتب معلقا: "حتى لو لم يكن الهجوم (على بولندا) متعمدًا، فلا شيء سار على ما يرام مرة أخرى. لقد مات شخصان كما أن الحرب الروسية ماتزال تحمل العديد من المخاطر التي لا يمكن تصور كل تداعياتها بعد".
حسن زنيند