سوق العمل في ألمانيا ـ ازدهار استثنائي ومعضلات بنيوية
٦ يناير ٢٠٢٤مع بداية السنة الميلادية الجديدة 2024، أظهرت بيانات مكتب العمل الألماني ارتفاعاً طفيفاً في عدد العاطلين عن العمل في البلاد بمقدار 5.000 شخص، بمعدل موسمي يناهز 2.703 مليون. وجاء هذا الارتفاع أقل بكثير مما توقعه المراقبون الذين راهن بعضهم على ارتفاع بحوالي عشرين ألف شخص.
وبهذا الصدد أوضحت رئيسة المكتب أندريا ناليس أن "سوق العمل لا تزال صامدة بشكل جيد رغم حجم الأعباء والشكوك". وبلغ معدل البطالة إلى نهاية ديسمبر/ كانون الأول 5.9% وهو أحد أدنى المعدلات منذ إعادة توحيد الألمانيتين. وتعكس ديناميكيات سوق العمل الألماني مزيجاً معقداً من التغيرات الديموغرافية والتقدم التكنولوجي والمواقف المتغيرة لأجيال من العمال، إضافة إلى الأزمات الدولية المختلفة كجائحة كورونا والحربين في أوكرانيا والشرق الأوسط.
ويصعب بالتالي، التمييز في الدينامية الاستثنائية لسوق العمل في ألمانيا بين تداخل هذه العوامل المختلفة. صحيفة "باديشه تسايتونغ" الألمانية (الثالث من يناير/ كانون الثاني 2024)، كتبت بهذا الصدد معلقة "بعد الركود وموجة الإفلاس هل بدأ الانهيار أيضاً في سوق العمل؟ في وقت الجليد والثلوج والأمطار المتواصلة، تقل الحركة على الطرقات (..) ولذلك فمن الطبيعي أن يزداد عدد العاطلين عن العمل في فصل الشتاء. وحقيقة أن المعدل كان أعلى في ديسمبر/ كانون الأول الماضي مقارنة بالعام الماضي (2022) لا يشكل سبباً للذعر. إنها مأساة لكل فرد يفقد وظيفته. ومع ذلك، فإن معدلات البطالة المكونة من رقمين، كتلك التي كانت سائدة في مطلع الألفية، لا تزال على بعد أميال (...). تستمر الحاجة إلى لليد العاملة بكثافة، ويظل النقص هو التحدي الأكبر لمعظم الصناعات".
التطور الديموغرافي وتأثيره على سوق العمل
ويستمر "جيل طفرة المواليد"، الذي نشأ في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، في التأثير على سوق العمل. ويصل العديد من هؤلاء العمال المهرة اليوم تباعاً إلى سن التقاعد، مما يؤدي إلى زيادة التقلبات في مختلف القطاعات الاقتصادية. ويتعين على الشركات العثور على خلفاء مناسبين وسد الفجوات المعرفية وفي نفس الوقت إدارة التغيير بين الأجيال. وهناك جيل جديد "رقمي" أو ما يسمى بجيل "Z" يتسم بالمرونة يجعل من التوازن بين العمل والحياة محوراً رئيسياً. ويميل هذا الجيل إلى تقييم أرباب العمل بناءً على قيمهم ومسؤولياتهم الاجتماعية. ويجب على الشركات أن تتكيف لجذب هذا الجيل الموهوب والاحتفاظ به.
وذهبت صحيفة "شفيبيشه تسايتونغ" (الثالث من كانون الثاني/يناير 2024) في تحليلها في نفس الاتجاه، مسلطة الضوء على العوامل الخفية التي تخفيها الدينامية الحالية وكتبت معلقة "يبدو أن الأزمة وصلت إلى سوق العمل. الخبراء يتحدثون عن تراجع مؤقت. وعلى المدى الطويل، سيظل المعروض من اليد العاملة محدوداً لأن الملايين سوف يتقاعدون قريباً لأسباب تتعلق بالعمر (..) تقدر البطالة بما لا يقل عن 2.6 مليون شخص. إضافة إلى ذلك، هناك نصف مليون شاب لا يعملون ولا يتدربون ولا يدرسون. يجب أن يكون الهدف هو جعلهم يعملون. ولكن حتى أولئك الذين يكسبون لقمة عيشهم غالباً ما يعملون بدوام جزئي، وهذا الاتجاه آخذ في الازدياد".
بين الارتياح وآفاق عدم اليقين
هناك من المعلقين من يحمل الحكومة الاتحادية مسؤولية الإحساس السائد بعدم اليقين، رغم الأرقام المشجعة لسوق العمل، من حيث التخطيط المالي والمسؤولية بشكل أساسي بشأن حالة عدم وضوح الرؤية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ليس من الواضح بعد نوع الدعم الحكومي الذي سيقدم للتحول الطاقي في المستقبل. كما أن قانون فرص النمو، الذي يهدف إلى تحفيز بناء المساكن وتقديم إعفاءات ضريبية في قطاع البناء، لا يزال قيد النظر في البرلمان. وهناك مخاوف من أن هذا الوضع لن يسمح بإفراز القوة السياسية والموارد المالية اللازمة لمعالجة العجز المتراكم في البنية التحتية، وبناء المساكن، والتحول الرقمي، والتعليم.
كما أن الخبراء يحذرون من احتمال تفاقم الفجوة في المهارات ويشددون على أهمية الاستثمار في التدريب والتعليم الإضافي من أجل الحفاظ على القدرة التنافسية في السوق العالمية. صحيفة "ميتلدويتشه تسايتونغ" (الثالث من كانون الثاني/يناير 2024) كتبت محذرة من أنه "إذا أثرت الأزمة الاقتصادية على سوق العمل في وقت يوجد فيه نقص في العمال المهرة، فسيكون ذلك علامة أكيدة على وجود أزمة عميقة. وعلى هذا فمن الممكن أن ننظر إلى الأخبار الطيبة القادمة من سوق العمل باعتبارها رسالة مطمئنة مفادها أننا لسنا في حالة كساد. لكنها أخبار لا تضمن حتى الآن أن الأمور سوف تتحسن مرة أخرى. باختصار: إن سوق العمل القوية وحدها لا تخلق انتعاشاً. لكن هناك إشارات إيجابية: يتوقع الاقتصاديون زيادة استهلاك المواطنين في عام 2024 بفضل ارتفاع الأجور. ويمكن للشركات الاستعداد لتحسن الطلب على الصادرات. ولكن هناك مؤشرات مخاطر في الأفق: إذا تفاقم الوضع في الشرق الأوسط، سيكون لذلك تداعيات بشأن ارتفاع أسعار النفط".
مواقف وتوجهات الأحزاب الألمانية
بشكل عام، تظهر مواقف الأحزاب الألمانية بشأن الوضع الحالي في سوق العمل مجموعة واسعة من التوجهات والأفكار. يعكس التنوع في الفلسفات السياسية المختلفة ويوضح أن مستقبل سوق العمل في ألمانيا سيستمر في مناقشته وتشكيله بشكل مكثف. وتعد سوق العمل قضية مركزية لدى الرأي العام، تؤثر بشكل كبير على أجندات ومواقف الأحزاب السياسية. فبالنسبة للتكتل المسيحي المعارض المكون من الحزبين (الديموقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي)، فيركز على الاستقرار الاقتصادي والنمو. ويؤكد على أهمية المرونة وتعزيز الابتكار والتكنولوجيا من أجل تحفيز القدرة التنافسية للاقتصاد الألماني.
أما الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي يقود الائتلاف الحاكم فيركز على العدالة الاجتماعية وتنظيم أكبر لسوق العمل. ويؤكد الحزب على أهمية الحد الأدنى للأجور وظروف العمل العادلة والأمن الوظيفي. كما أنه يسعى لتعاون وثيق بين النقابات والشركات والمؤسسات الاقتصادية لتعزيز التفاوض الجماعي وتعزيز حقوق العمال. فيما يؤكد حزب الخضر (الحليف في الائتلاف الحكومي) على الحاجة إلى التحول البيئي مركزاً على خلق فرص عمل جديدة في مجالات الطاقة المتجددة وحماية البيئة والتكنولوجيات المستدامة. وفي الوقت نفسه، يدعو الخُضر إلى الضمان الاجتماعي وتعزيز نماذج العمل التي تهدف لتحسين التوازن بين العمل والحياة.
أما حزب اليسار، فيقدم نفسه كممثل لمصالح الطبقة العاملة بشكل عام ويدعو إلى إعادة توزيع شاملة للدخل والثروة. ويدعو الحزب إلى رفع الحد الأدنى للأجور، واحتواء العمالة غير المستقرة، وخفض كبير في ساعات العمل مع تعويض الأجر الكامل. الأمن الوظيفي والعدالة الاجتماعية يقعان في قلب سياسة سوق العمل اليسارية. فيما يعتمد الحزب الديمقراطي الحر (المشارك في الائتلاف الحكومي) على سياسة اقتصادية ليبرالية ويؤكد على أهمية حرية تنظيم المشاريع وروح المبادرة الحرة. ويركز الحزب الديمقراطي الحر على مبادئ اقتصاد السوق ويدعو إلى تقليل العقبات البيروقراطية وضرورة المرونة في سوق العمل وتشجيع الشركات الناشئة.
أما حزب البديل من أجل ألمانيا (اليميني الشعبوي المعارض) فيدعو إلى تقييد سياسة الهجرة وحماية سوق العمل المحلية. ويعتمد الحزب على الحلول الوطنية ويؤكد على ضرورة تأمين الوظائف الألمانية. كما يدعو إلى إجراء مراجعة نقدية لاتفاقيات التجارة الدولية فيما يتعلق بتأثيرها على سوق العمل.
معضلة دمج اللاجئين في سوق العمل
يظل دمج اللاجئين في سوق العمل في ألمانيا قضية مركزية تأخذ أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية. فقد تحسن وضع التوظيف للاجئين في ألمانيا في السنوات الأخيرة، ولكن لا تزال هناك بعض العقبات التي يتعين التغلب عليها. ووفقاً للإحصاءات الحالية الصادرة عن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، استقر معدل البطالة بين اللاجئين في السنوات الأخيرة ويناهز حوالي 12 بالمئة في عام 2023. ويمثل هذا انخفاضاً مقارنة بالسنوات السابقة ويظهر تطوراً إيجابياً. غير أنه بالرغم من التقدم المحقق، فإن اللاجئين يواجهون تحديات مختلفة تجعل اندماجهم في سوق العمل صعباً. وتشمل هذه العوائق اللغة، وعدم الاعتراف بالمؤهلات، والاختلافات الثقافية. وتعمل الحكومة الاتحادية على التغلب على هذه العقبات من خلال تدابير مستهدفة مثل دورات اللغة وبرامج التأهيل.
يعد دمج اللاجئين في سوق العمل الألماني عملية طويلة الأمد ولا تزال تتطلب مشاركة نشطة من الحكومة والشركات والمجتمع. وسيكون تعزيز التعليم والمهارات المهنية والحساسية الثقافية أمراً حاسماً لضمان الاندماج المستدام. ولا يزال قبول موجات اللاجئين في عامي 2015 و2016 وبعدها الموجة التي نشأت بعد حرب أوكرانيا، قضية رأي عام تثير الجدل إلى اليوم. فهناك انتقادات متكررة مكررة لما يسمى بـ "الهجرة إلى أنظمة الضمان الاجتماعي" وخاصة من قبل السياسيين المحافظين وكذلك حزب البديل من أجل ألمانيا.
غير أن حجم الدعم الاجتماعي الذي حصل عليه أولئك الذين دخلوا البلاد في عامي 2015 و2016 آخذ في الانخفاض بشكل مستمر بفضل اندماجهم المطرد في سوق العمل. فحوالي 40% منهم فقط يحصلون على إعانات اجتماعية والاتجاه آخذ في الانخفاض. وهذا لا يعني أن نسبة كبيرة منهم يعيشون بالكامل على المساعدة الاجتماعية. العديد منهم يتلقون مساعدة مثل إعانة الإسكان لأن أجورهم منخفضة للغاية. وبما أن أكثر من ثلثهم كانوا قاصرين عندما وصلوا إلى ألمانيا، فإن الكثير منهم لا يزالون في التعليم والتدريب ولم يصلوا لمرحلة الاستقلال الاقتصادي عن معونة الدولة.
حسن زنيند