"وجهات النظر الشمولية توسع الهوة بين اللاجئين والألمان"
٢٦ سبتمبر ٢٠١٦تعيش الروائية السورية روزا ياسين حسن في ألمانيا منذ ما يقارب أربع سنوات، تتعلم اللغة الجديدة، وتحاول التأقلم مع واقعها الجديد بعد أن اضطرت إلى مغادرة وطنها سوريا شأنها في ذلك شأن كثيرين من الأدباء والمثقفين المعارضين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد. DW عربية التقت الأديبة السورية للحديث معها حول إشكاليات اللجوء والاندماج والأدب في بلد المهجر:
DW عربية: تعيشين مغتربة عن وطنك منذ أربع سنوات. هل أمكنك التأقلم مع حياة اللجوء الجديدة؟
روزا ياسين حسن: هذا يعتمد على فهمنا للتأقلم، إذا كان المفهوم يخصّ الخضوع للمجتمع بأعرافه وعاداته، اكتسابها والمباشرة بعيشها، فالجواب ببساطة هو: لا، لم ولن أتأقلم. فأنا، بهذا المعنى، لم أكن يوماً متأقلمة مع مجتمعي العربي، لأني أعتقد أن على الكاتب أن يحتفظ بعينه الناقدة دائماً، وبقدرته على عدم الرضوخ لكل ما يُطلب منه تنفيذه، سواء أكان ذلك اجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً.
التأقلم، أو ما يسمونه هنا الاندماج Integration، مفهوم قاصر برأيي، وأفضل أن أبدّله بمفهوم آخر هو Inklusion أو بمعنى الاندراج في المجتمع، أي الحفاظ على الخصوصية الثقافية للإنسان، كما الخصوصية الشخصية، ولكن العيش المسالم والفاعل المشترك في المجتمع، واحترام قوانينه وتنوّعه. باختصار أنا مع فكرة العيش كمواطنة لها حقوقها وعليها واجباتها ولكن ضمن طقوسي الثقافية الخاصة، بهذا المعنى فأنا أشقّ طريقي في حياتي الجديدة هنا. الهوية المتعددة هي سمة أفتخر بها، ولا أحبّذ الخضوع لهوية واحدة محددة.
بوصفك لاجئة سورية وأديبة قادرة على التقاط التفاصيل الصغيرة في معاناة اللاجئين. ما هي المشاكل التي تواجههم في ألمانيا؟
صعوبات اللغة الجديدة والنظام الرسمي البيروقراطي هي مشاكل حقيقية تواجه كل قادم جديد، لكن المشكلة الأساسية، وبالدرجة الأولى، هو فهمنا للحرية وعيشنا لها. مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات محافظة، تفتقد إلى الحريات الفردية، فالنظم والأعراف الاجتماعية هي الحاكمة.
في ألمانيا الوضع مختلف إلى حدّ بعيد، هنا يقع معظم القادمين الجدد، خصوصاً في الفترات الأولى، تحت وطأة هذين النقيضين. هذه مشكلة حقيقة تخصّ تعريفنا لذواتنا ولثقافتنا، كما تخصّ مفهوم الهوية باختصار. بالدرجة الثانية، الأحكام المسبقة التي يحملها اللاجئ معه قبل وصوله إلى المهجر، والموجودة أيضاً لدى شريحة كبيرة من الألمان تجاه القادمين، تجعله إما ينكفئ على نفسه ويتقوقع منفصلاً عن المجتمع ضمن كيتونات قومية أو دينية مغلقة، أو تجعله عنيفاً تجاه المجتمع بردود أفعال متطرفة. الأحكام المسبقة هي وجبات جاهزة سهلة وخطرة لأنها تجعلنا غير قادرين على لمس الإيجابيات في المجتمع الغريب.
... وكيف يمكن التغلّب عليها برأيك؟
بالإصرار على العيش بفعالية ضمن المجتمع الجديد، وليس القبول بالعيش على حدوده أو خارجه، وبمحاولة إثبات الذات كما إثبات الشقّ الإيجابي من الثقافة الشرقية. كل ثقافة كما كل مجتمع لديه سمات إيجابية وسمات سلبية، علينا برأيي أن لا نتمسك بالسلبي منها، بالمقابل أن نركّز على الملامح الإيجابية التي يمكننا عيشها. بالنظر إلى المجتمع الألماني ففيه كذلك الإيجابي والسلبي، لنركّز على التعامل مع السمات الإيجابية هنا بقدر ما نستطيع، ونستفيد منها. بقدر ما أمكننا ذلك بقدر ما يغدو العيش في المجتمع الغريب والجديد أكثر سلاسة وإنتاجاً.
مفهوم المواطنة مفهوم مهم جداً، التعامل مع البلد الجديد باعتباره يخصّنا، وليس مكاناً مؤقتاً لا شأن لنا به وبالتالي لا انتماء لنا إليه. فحتى لو كان وجود اللاجئين هنا مؤقتاً، وهذا ربما ما يتمناه معظمهم، مع ذلك يمكننا العيش كمواطنين فاعلين أياً كانت مدة عيشنا.
مسائل كثيرة أثارت مخاوف الألمان من قدوم اللاجئين في الآونة الأخيرة، أبرزها التطرف والهجمات الإرهابية، كيف ستؤثر هذه المخاوف على واقع اللاجئين؟
من الواضح ازدياد الحديث عن حدّة العداء تجاه اللاجئين، أو الأجانب بشكل عام، في عموم البلدان الأوروبية ومنها ألمانيا. لا يمكننا الحديث عن تنامي ذلك العداء في كل شرائح المجتمع، لكن نسبة كبيرة بدأت تميل باتجاه شمل عموم اللاجئين بالإسلام المتطرف والإرهاب. ثمة مجموعات كبيرة من الألمان الذين فتحوا أذرعهم للاجئين حين قدومهم، يبدون الآن أكثر تحفّظاً. وجهة النظر الشمولية هذه تقابلها وجهة نظر شمولية أخرى من قبل لاجئين تجاه الألمان والأوروبيين بشكل عام، بأنهم كفرة وعنصريون متعصبون وما إلى ذلك.
هذا سيعمل على ازدياد الهوة بين الطرفين: اللاجئون سيزدادون انغلاقاً وتعصّباً، لأنهم يعتقدون سلفاً بأنهم منبوذون، والألمان سيزداد عداؤهم تجاه اللاجئين، لأنهم يعتقدون بأنهم خطر على سلام عيشهم، مما سيجعل أفكار اليمين المتطرف أكثر قبولاً وشعبية، الأمر الذي لاحظناه قبل أيام في الانتخابات البرلمانية، والذي يهدّد بفقدان ألمانيا لجزء مهم من مكتسباتها الديمقراطية بشأن حقوق الإنسان، والتي دفعت ثمنها غالياً بعد الحرب العالمية الثانية.
كما سيعمل على تشظية المجتمع الألماني الأمر الذي سيؤثر سلباً على اللاجئين أيضاً الذين أضحوا، بغض النظر عن ديمومة الأمر أم تحديده كما سبق وقلت، جزءا من هذا المجتمع. الانكفاء السلبي عند اللاجئين سيزيد من سوء الأمر باعتقادي، فأن يكون اللاجئ عضواً فاعلاً إيجابياً في المجتمع الجديد، محترماً للآخر ومتقبلاً لقوانينه وخصوصيته، مع احتفاظه بخصوصيته أيضاً، أمر سيؤثر إيجابياً على حياته ذاتها وعلى واقع اللاجئين بالعموم.
في مقالتك الأخيرة عن داريا وردت هذه العبارة: "وحدها رائحة الكبرياء هي التي رافقتني يومها وأنا أغادر داريا. هل شكلت سيطرة النظام على داريا نوعاً من الإحباط وتشويهاً لتلك الصورة التي تركتيها قبل رحيلك؟
في السنوات التي قضيتها بعيدة عن سوريا حصلت الكثير من الكوارث الإنسانية والسياسية شكلت إحباطاً شديداً لي، وكنت في كل مرة أقف وأحاول المضي قدماً: من تفكك المعارضة الديمقراطية إلى أسلمة الثورة والانتهاكات التي راحت تحصل باسمها، إلى التدخل الروسي والإيراني لصالح النظام، إلى التنامي الطائفي المقرف في عموم البلاد. كل ذلك كان يشكّل إحباطاً وراء إحباط وانكساراً وراء انكسار، شعور العجز وعدم القدرة على التأثير يجعل الوجع يزداد.
انكسار ثورة داريا شكّلت إحدى هذه الاحباطات، باعتبار داريا ظلت محتفظة بطابعها العلماني الثوري بدون ارتهانات أو تطئيف. لقد اقتنعت منذ زمن بأننا خسرنا الجولة الأولى، وبأن على المعارضة الديمقراطية أن تعيد محاسبة نفسها، تعلن فشلها محاولة لتصحيح جملة من الأخطاء التي ارتكبتها قبل وبعد وأثناء الثورة.
كما بتّ مقتنعة أن لا حلّ في سوريا إلا الحل السياسي، وأن هذا الحل ليس بيدنا نحن السوريون، للأسف ولكن ينبغي الاعتراف بذلك، بل الحل بيد الدول الكبرى التي تلعب بالمنطقة وسكانها كأحجار شطرنج.
لكن الاحباطات التي تحدثت عنها جعلتني أقتنع أكثر بأن دوري ككاتبة، في هذا الوقت كما دائماً، مهم للغاية، ويمكنني أن أفعل الكثير بكلماتي، على الأقل الكلمات تغيّر وجه المستقبل، وهي سلاحي الذي لن أتنازل عنه.
في روايتك (حراس الهواء) كانت البطلة (عنات) تقوم بدور الناقد السياسي لواقع الاستبداد داخل الوطن العربي. ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة السورية في حالة النزوح واللجوء برأيك؟
أعتقد دوماً أن المرأة هي حاملة مشعل الحياة، هي القادرة بالدرجة الأولى على زرع رغبة الحياة والحب والأمل والسلام والإيجابية والفاعلية في نفوس الأجيال القادمة. والأجيال القادمة من السوريين هم مستقبل سوريا، وهم الذين سيحددّون ما الذي سنغدو عليه، وكيف سيكون مصيرنا. على هذا فوجه المستقبل ترسمه السوريات اليوم بشكل أو بآخر.
تعد روايتك (الذين مسّهم السحر) أول تجربة لك بعد خروجك من سورية. ما هو الجديد بالنسبة لك في هذه التجربة؟
حتى الآن لم ألتقط جيداً كل الفروقات التي طالت كتابتي هنا، لكن أعتقد بأني صرت أرى تفاصيل كانت عادية برأيي قبلاً، والآن لم أعد أجدها عادية. ثمة قوالب جاهزة كنا خاضعين لها من حيث أردنا الخروج ضدها، هذا ما صرت مقتنعة به. اطلعت هنا على ثقافة جديدة وعلى سبل أخرى في الكتابة والعيش، على أفكار جديدة وألسنة جديدة، وأعتقد بأن هذا سيغير الكثير فيّ وبكتابتي.
في روايتك الأخيرة تصفين جميع السوريين بالجنون "المعارض للنظام والموالي له.. كلنا مسّنا السحر". هل برأيك يشترك الجميع في المسؤولية إزاء ما حدث في سوريا؟
أنا لم أصف أحداً بالجنون، وإنما قلت مسّنا السحر، والفرق كبير. ونعم أقتنع بأن السوريين كلهم يشتركون في حمل مسؤولية ما يحدث في سوريا، حتى لو كانت هناك أطراف تتحمّل المسؤولية الأكبر. عجلة العنف التي بدأ النظام السوري بإشعالها قبل خمس سنوات ونصف طالت البلاد كلها، كما طالت النفوس والأرواح، والناس، الناس العاديون من كل انتماء ومكان، هم وحدهم من يدفعون بدمهم ثمن كل لك الخراب.
قامت بعض المؤسسات الألمانية بتقديم الدعم للمثقفين والمبدعين من المهاجرين، هل حظيتِ بمثل هذا الدعم؟ وما هي أهمية عمل مثل هذه المؤسسات؟
بالنسبة لي كان قدومي إلى ألمانيا بدعم من مؤسسة هاينريش بول، حيث بدأت بكتابة روايتي، ومن ثم ساعدتني مؤسسة هامبورغ كثيراً، وكان ذلك في البدايات قبل أن نضطر لطلب اللجوء كغيرنا من السوريين. أعتقد أن المجتمع المدني الألماني مجتمع فاعل جداً وقادر على التأثير بحق، ودعمه للمثقفين والمبدعين والناشطين وغيرهم يؤثر بشكل مهم في مسيرتهم. لمست هنا بشكل حقيقي مدى التأثير العميق للمؤسسات والهيئات المدنية الألمانية على المجتمع وعلى القرارات السياسة والحركة الثقافية في البلاد، وهذا أمر جعلني أزداد اقتناعاً بأن البلاد التي تتمتّع بقوة مجتمعاتها المدنية والأهلية هي بلاد لا يمكن أن تهتزّ ديمقراطيتها.