رعاية الأطفال أولى ضحايا ظاهرة الفقر في ألمانيا
٢١ أكتوبر ٢٠٠٦لم تكد العاصفة التي تسببت فيها الدراسة التي قامت بها مؤسسة فريدريش ايبرت، والتي كشفت النقاب عن وجود فئة عريضة تعاني من الفقر في ألمانيا، لم تكد تهدأ حتى عادت قضية الفقر في ألمانيا مجددا إلى بؤرة الاهتمام بعد خروج أكثر من دراسة اجتماعية في الأيام الأخيرة تؤكد نتائجها ما ذهبت إليه دراسة مؤسسة ايبرت. وتُثير القضية سجالا واسعا على الصعيد السياسي وفي وسائل الإعلام حول خلفيات وأسباب تكوين تلك الفئة الفقيرة التي تبلغ 8 بالمائة من السكان والألفاظ المستخدمة لوصفها، كما تُثير الجدل حول عجز الدولة عن توفير الرعاية اللازمة للأطفال، وتبعات ذلك السلبية على تربية الأجيال القادمة.
بدايةً قد تثير ظاهرة الفقر في ألمانيا بعض التساؤلات لدى المتابع العربي حول مدى جديتها إذا ما قورنت بالفقر الذي ترزح تحته دول العالم الثالث، لاسيما وألمانيا تعد واحدة من أغنى دول العالم. إلا أن د. ديتر دولن مؤسس ومدير معهد بحوث الاقتصاد الاجتماعي واقتصاد التعليم أوضح في حديث لموقعنا قائلاً: "بالطبع يوجد فرق كبير بين الفقر الذي نتحدث عنه في ألمانيا والفقر السائد في الدول النامية. فإطلاق صفة (الفقراء) على فئة معينة يعتمد على متوسط مستوى المعيشة للفرد في الدولة المعنية. وألمانيا تتميز بمستوى معيشة مرتفع ولذلك فإن المستوى المادي لفقراء ألمانيا لا يقارن بمستوى الفقراء في الدول النامية. لكن بالطبع توجد سمات مشتركة بين فقراء العالم تتمثل في انخفاض المستوى التعليمي وعدم القدرة على تغطية الاحتياجات الأساسية بسبب الموارد المالية المحدودة". وبالرغم من أنه لا يرى ارتباطاً مباشراً بين الفقر المادي والفقر الثقافي، إلا أن الطبقة الفقيرة الحالية في ألمانيا تعاني من الأمرين معاً وهو ما يصعب عملية الارتقاء بالمستوى الاجتماعي في ظل متطلبات سوق العمل الحالية، حسب رأيه.
قلة الضمانات الاجتماعية وظهور فئة "الفقراء الجدد"
وإلى جانب دراسة مؤسسة فريدريش ايبرت ظهرت دراسات أخرى توضح أن الكثير ممن يعانون من ظروف اقتصادية صعبة في ألمانيا يفشلون في الحصول على مساعدة من قبل الدولة، ومن بينهم نحو اثنين مليون موظف لا يحصلون على المساعدات المستحقة لهم، كما جاء في الدارسة التي قامت بها مؤسسة هانز بوكلر. المؤسسة التي تعمل بالتعاون مع النقابات العمالية في ألمانيا أوضحت أن هناك نحو 7.4 مليون موظف يحصلون على مساعدات من الدولة لانخفاض دخولهم، وهو عدد أقل من عدد الموظفين الذين يحق لهم الحصول على المساعدات وهو 10 مليون موظف. واتهمت المؤسسة الحكومة الألمانية بأنها لا تعلن إلا نصف الحقائق، وأنها بذلك تتسبب في أن تعيش ملايين العائلات في حالة من الفقر ويعاني معهم أطفالهم.
وعن هؤلاء "الفقراء الجدد" كما أطلقت عليهم دراسة مؤسسة فريدريش ايبريت يقول د. ديتر: "تم استخدام مصطلح "الفقراء الجدد" لربط هذه الظاهرة بقوانين الضمانات الاجتماعية التي زادت حدة في السنوات الأخيرة و أدت إلى انحدار مستوى الكثير ممن كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة ليصبحوا الآن تحت فئة الفقراء". في رأيه أثرت التغيرات التي طرأت على سوق العمل على مدار السنوات والعقود الماضية على شرائح واسعة من المجتمع، حيث خفضت الدولة المعونات الاجتماعية التي كانت تقدمها في سبيل تحفيز المواطنين على البحث عن عمل. لكنه يجد أن المعونة التي تم تخصيصها للعاطلين لا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، كما أن الكثير من المصنفين تحت هذه الفئة لا يستطيعون الخروج والبحث عن عمل نظرا لظروف قهرية تحكمهم، كرعاية الأطفال على سبيل المثال أو لأسباب صحية.
أطفال يدفعون ثمن الظروف الاجتماعية
وجاءت دراسة أخرى نشرت يوم الأربعاء الماضي (18 اكتوبر/تشرين اول) لتزيد من حدة الحوار، إذ أنها ألقت الضوء على ما يعانيه الأطفال في العائلات الفقيرة في ألمانيا. فقد جاء في الدراسة التي قام بها عالم الاجتماع الألماني كلاوز هورلمان أن نحو 80 ألف طفل في ألمانيا يعانون من الإهمال. ونحو1 بالمئة من الأهل لا ينتمون إلى المتوسط الاجتماعي الطبيعي، فمنهم من يعاني من مشاكل نفسية ومنهم مدمنو الكحول أو مدمنو المخدرات كما صرح الباحث في حديث لجريدة "دي تسايت"، وحذر من أن أبناءهم الذين تتراوح أعمارهم بين عام وعشرة أعوام يعيشون الآن تحت تهديد مستمر بانفجار كارثة.
وأضاف هورلمان أن 15 بالمئة من الآباء يعانون من صعوبات في تربية أبنائهم، واقترح أن يكون للحكومة دوراً أكبر لحماية هؤلاء الأطفال كأن تشترط أن يذهب الأطفال إلى الأطباء بانتظام لإجراء كشف عام عليهم، حتى يحصل الآباء على المال المخصص لتربية الأطفال. وبذلك يمكن التأكد من أن الآباء لن يصرفوا المال في غرض آخر. وقال وهو متأثر بحادث وفاة طفلين بسبب سوء معاملة أهلهما: "إنك لن تحصل على نتيجة إذا طالبتهم بالقيام بهذه الأعمال بشكل اختياري". وبعد الزوبعة التي أحدثها مقتل هذين الطفلين في وسائل الإعلام، أكد رئيس وزراء ولاية بافاريا ادموند شتويبر على أنه لن ينتظر القرارات التي ستتخذها الحكومة الفيدرالية لتوفير الرفاهية للأطفال وأن ولاية بافاريا ستبدأ بالتحرك في هذا الاتجاه. وأول خطوة في هذا الطريق هي اعتبار إجراء كشف طبي كامل للأطفال إجراءا الزاميا، حيث أن الكشف يمكن أن يُظهر إذا ما كان الطفل يتعرض للإهمال أو سوء المعاملة. وفي نفس السياق قررت ولاية ساكسونيا أن تقوم بإنشاء وحدة نجدة يمكن للأطفال اللجوء إليها عند تعرضهم للمشاكل العائلية.
هل يهدد الفقر الديمقراطية؟
أثارت دراسة مؤسسة فريدريش إيبرت جدلا حول الألفاظ المستخدمة لوصف هذه الفئة الجديدة، وانتقد الكثيرون استخدام تعبير "الطبقة الدنيا"، مؤكدين أنه يحمل دلالات شديدة السلبية. أما د. ديتر دولن فيقول عن رفض السياسيين تقسيم الشعب الألماني إلى طبقات: "أعتقد أن استخدام مصطلح "الطبقة الدنيا" يعني ببساطة الاعتراف بوجودها، الاعتراف بأن هناك فئات تعيش على هامش المجتمع. ولذلك يحاول البعض تجنب استخدامه". من ناحية أخرى ينظر ميشائيل سيبيريش، وهو أحد الخبراء من الجناح اليميني المتطرف من مؤسسة يبرتلزمان، ينظر إلى المناقشات حول قضية الفقر من منظور سياسي. ويرى أن تحليل المشاركة الانتخابية يؤكد أن هؤلاء الذين يشعرون باليأس من مساعدة السياسيين لهم قد يمتنعوا نهائياً عن التصويت، أو قد يصوتون للأحزاب المتطرفة، وأن زيادة نسبة المنتمين لهذه الفئة قد يؤثر على الديمقراطية في ألمانيا على المدى البعيد في رأيه.