رشا حلوة: هل نحضر أطفالًا إلى هذا العالم؟
٨ نوفمبر ٢٠١٧عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، كان على أبي، رحمه الله، الخضوع لعمليّة استئصال ورم سرطانيّ، كانت المدة المحددة للعمليّة الجراحيّة هي 11 ساعة على الأقل، لصعوبتها وحساسيتها. لكن، بعد ساعة ونصف من دخوله إلى غرفة العمليّات، أخبرونا أن العمليّة لن تنجح في ذاك الوقت، لأسباب طبيّة معقدة، وأن عليه أوّلًا مرور علاج كيماوي لتصغير الورم السرطانيّ ومن ثم إجراء العمليّة بعد فترة. أذكر جيدًا كيف كانت حالتي آنذاك، الغضب والألم والخوف الذي انفجر، كنت أسأل والدتي باكيّة: "لماذا أحضرتموني إلى هذا العالم؟"، كان ذاك رد فعل أوليّ لخوف ما، خوف من المرض وتداعياته، الخوف على أبي وعلى عدم قدرتي للتعامل مع القلق والمستقبل المجهول، كما الخوف من الفقدان الذي لا علاقة له بالجيل.
منذ تلك اللحظة، بقي السؤال عالقًا في رأسي، ليس تجاه أهلي، بل تحوّل إلى سؤالًا تجاه نفسي، ومن ثم انتقل معي إلى مراحل عديدة في حياتي، تحدثت عنه مع الأصدقاء، ولا زال السؤال حيًا في حياتي وحياة آخرين حتى يومنا هذا، في عالم مليء بالخوف والقلق، في بلاد غير آمنة ومن الصعب معرفة مستقبلها الفرديّ والجماعيّ، هو سؤال أيضًا يرافق جيل اليوم، في عصر التكنولوجيا والانفتاح إلى المعلومات: هل نريد أن نجلب أطفالًا إلى هذا العالم؟ أم لا؟ ولماذا في كلتا الحالتيْن؟
بالرغم من الحضور القوي للسؤال في حياة النساء والرجال على حد سواء، لكننا نعرف أيضًا أن الإنجاب أحيانًا يأتي من غير قرار أو تفكير مسبق، وحتى أولئك الذين تساءلوا حوله وفي مرحلة من حياتهم/ن لم يرغبوا/ن بإنجاب أطفال، تغيّرت عليهم/ن الحياة، وبالتالي، حضور الأطفال في حياتهم/ن غيّر منظورهم/ن الشخصيّ إزاء الموضوع وأسئلته.
قبل أن أبدأ كتابة مقالي، أردت أن أشارك السّؤال مع بعض الأصدقاء والصديقات، فكانت صفحتي في فيسبوك مساحة لطرحه على المعنيّين/ات بالإجابة. معظم الإجابات عليه كانت من النساء. صديقة من مصر قالت: "أنا مش عايزة أطفال. خلال العشرينات من عمري، كنت مشغولة بإثبات وجودي وعملي، وشعرت عندها أن الطفل سوف يعرقل سير حياتي، بالإضافة إلى أن المجتمع لن يساعد كي يكون بمقدوري أن أفعل كلا الأمرين، ويجب أن أختار، فاخترت مستقبلي الأكاديميّ والفنيّ. كما أنه لا يمكنني منحه أسرة مستقرة ومدرسة وتعليم جيّد وحرية لازمة بلا أن يواجه ضغوطات المجتمع. ستكون مصر صعبة على ما أتمناه لابنتي. لو كانت عندي ابنة، لن أقبل بإغلاق الباب عليها وحبسها ضمن عادات باليّة وأفكار تسجنها ولن أعرضها للاضطهاد. ولو كنت في ظروف ثانيّة، أو أعيش في بلد أوروبيّ، كنت بلا شك سأنجب طفلة، لكن هنا، مستحيل أن أنجبها في ظلّ الكبت الذي نعيشه".
تتفاوت الآراء بين الأسباب التي تجعل الفرد غير راغب في الإنجاب، منها الشخصيّة ومنها العامّة، ولربما تعيش المرأة عادة صراعًا أقوى في ظلّ ظروفها البيولوجيّة التي تمنحها فترة محددة تمكّنها من الإنجاب، مقارنةً بالرجل، فيبقى السّؤال في صراع مع الزّمن وجسدها وقدرتها على الإنجاب مع مرور السنين. العديد من النساء اللواتي أرسلن إجابة على السؤال، عبرنَ عن رغبتهن بأن يصبحهن أمهات، صديقة أخرى من مصر، قالت: "حسّي للأمومة عالٍ جدًا، لكني أقاومه كلّ الوقت، ولا أريد أن أنجب أطفالًا، لأني خائفة جدًا، وأشعر أني لا أريد أن أربي أطفالًا في هذا البلد خوفًا من أن لا يكبروا بصحة نفسيّة وبدنيّة جيدّة، وليس هذا العالم الذي سأطمئن به عليهم".
على الرغم من حضور السؤال في حياتي بشكله الفلسفيّ، إلّا أن فكرة هذا المقال جاءت من خلال محادثة مع صديق سيصبح أبًا لطفلة قريبًا، هو الذي يعيش في ألمانيا منذ سنوات لاجئًا من سوريا. تمحوّر حديثنا حول الإنجاب في هذا العصر وفي سياق البلاد، فقال: "قبل أن تحمل شريكتي، لم أرغب بأطفال، كنت أرى العالم من زاوية بشعة، لكني أيضًا أحب الأطفال كثيرًا، ومنذ وقت طويل لدي شعور الأبوة. اليوم، رفيقتي حامل وقررنا إنجاب طفلة. طبعًا، لو كنت في سوريا أو في لبنان أو أي بلد من بلادنا، لم أكن لأفكر بالموضوع أبدًا. فأنا لن أحضر طفلًا إلى تلك البلاد، لكن في ألمانيا، غالبًا على المدى القريب أو البعيد، وضع الطفل آمن، وهو ليس مضطرًا لأن يحارب كل يوم كي يعيش أو يأكل أو يعبّر عن أفكاره... أعلم أن الإنجاب هي فكرة أنانيّة، ونحن لا نفكر بشخصيّة الأبناء عندما يكبرون وأسئلتهم عن رغبتهم بالوجود في هذا العالم، نحن نقرر أن يكونوا موجودين بدلًا عنهم، ولن تكون لدي إجابة عندما تأتي ابنتي لتسألني بعد 18 عامًا: بابا، ليش خلفتوني؟".
من ضمن الآراء الرافضة لفكرة الإنجاب في هذا الوقت، سواءً لأسباب شخصيّة أو عامّة، وعلى الرّغم من أن بعضًا من النساء تحمل شعور الأمومة، لكنها تجد أن التبني هو أحد الحلول لترويض هذا الشعور الذاتيّ، والذي أطلقت عليه البعض وصف "الأناني". في حديث مع صديقة، قالت: "هنالك العديد من الأطفال في العالم، ولا أريد أن أحضر طفلًا إضافيًا، لو لدي إمكانيّة وممكن أن أغيّر رأيي، سأحاول تبني طفلًا". صديق آخر عبّر عن نفس الفكرة: "العالم في هذا الوقت ليس بحاجة للمزيد من الأطفال، لأن هنالك الملايين من الأطفال بحاجة لأهل وفرص حياة. التبني هو أحد طرق "الإنجاب" التي تساعد على حلّ المشكلة، ولوّ قليلًا".
على مستوى شخصيّ، لربما سؤال الإنجاب هو من أكثر الأسئلة التي لا أملك إجابة عليها، حال الكثيرين والكثيرات بالطبع، فتكون الإجابات عادة رهينة تفاصيل عديدة، أوّلها الحبّ والعاطفة كما والظروف. لكن، كلما سألت نفسي هذا السؤال، أعود إلى والدي، وصورته في فراش الموت محاطًا بالحبّ من أبنائه وبناته، والموت في كل الأحوال يبقى موتًا، لكن ربما، سيكون أكثر رحمةً عندما لا نكون وحيدين، فتبقى الإجابة على السؤال: "هل نريد إحضار أطفال إلى هذا العالم؟"، هو من أكثر الأسئلة والقرارات الذاتيّة والعاطفيّة، ابن لحظته، أو كما أجابني صديق: "هل الموضوع يحتاج إلى سؤال؟". ربما، لكن الإجابات التي نسمعها، تعطي صورة عن شكل العالم اليوم.
رشا حلوة
* المقال يعبرعن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة رأي مؤسسةDW.