رشا حلوة: هل سنجد الحبّ في زمن الإنترنت والسّفر؟
٣١ يناير ٢٠١٨يشغل سؤال الحبّ العديد من الناس، نساء ورجال على حدّ سواء، خاصّة في مراحل يبحثون ويبحثن فيها عن الحبّ، المتجسّد في حديثنا هنا بارتباط أساسه عاطفيّ، بالاضافة إلى الرغبة بخوض تجربة أو علاقة عاطفيّة ما. هذا الانشغال، ربما يرتبط أكثر في عصر يحمل أيضًا اسم عصر "السوشال ميديا"(شبكات التواصل الإجتماعي)، حيث التحوّل الملموس في أشكال العلاقات بين البشر، بما في ذلك من "سفر" في العالم بلا حركة جسديّة، وبالمقابل، أيضًا "سهولة" السّفر والحركة الحقيقيّة في العالم في هذا الزّمن.
التحوّل هذا له أبعاد ومستويات عديدة، تلك التي تتجسد بالتغيير بأنواع التواصل والتعبير، بما في ذلك العاطفيّ، بالإضافة إلى أن فكرة تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، هي حقيقيّة بهذا الشّأن؛ فباب المعرفة المفتوح إلى العالم من غرفنا الضيقة، والشبابيك إلى احتمالات علاقات إنسانيّة، صداقة وعاطفيّة لا نهائيّة ربما، بالضرورة له تأثير على إمكانيّة إيجاد حبّ، أو بداية علاقة عاطفيّة، هذه الحركة الدائمة من المكان الثابت، تشبه تمامًا نهج حياة السّفر الذي يختاره البعض أو يُفرض عليه لأسباب عديدة، جميعها تأتي باحتمالات أكثر، وبالتالي، بجاهزيّة أقل، للباحثين/ات عن الحبّ، ولمن يبحثون ويبحثن عنهم وعنهن.
من الجدير بالإشارة، إلى أن هذا المقال لا يأتي لتقييم ما هو صحيح أو خطأ، ولا يدعي أن عصرنا اليوم أكثر سوءًا من زمن سابق، نعرفه أو سمعنا عنه، إنّما محاولات لطرح أسئلة في ظلّ عالم تسوده إمكانيّات واحتمالات لأشياء عديدة، منها الحبّ، وذلك نتاج تأثير العولمة على حيواتنا، أو هكذا نعتقد.
بالعموم، نعيش في زمن فُرض فيه نهج السّفر علينا، سواء بالحيز الذي تأخذه مواقع التواصل الاجتماعيّ في حيواتنا، أو الظروف السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي أجبرت العديد على الحركة والسّفر والهجرة، وبالتالي، التأقلم في ظروف حياتيّة جديدة، بالطبع من شأنها تغيير التعامل الفرديّ مع العاطفة وارتباطاتها مع البشر.
قبل أشهر، وبعد فترة قليلة من انتقالي إلى برلين، كنت أتحدث مع صديق، أيضًا انتقل إلى برلين مؤخرًا، عن علاقة الحبّ بالناس الذين اختاروا "نهج السّفر" في حيواتهم، من جهة، هذا النهج يتيح احتمالات حبّ عديدة، وارتباطات عاطفيّة، لكن بنفس الوقت، وجود هذه الاحتمالات هو مهرب من اختيار الخوض أو تجريب علاقة عاطفيّة أساسها الرغبة بوجود هذا الشكل من الحبّ.
في حديث مع صديقة مقيمة في برلين، عن هذا الجانب، قالت: "بالنسبة لي، عزّزت السوشال ميديا عندي الخوف من الخسارة، أي خسارة فرص جديدة، بمعنى، أفكر دومًا بأن هنالك احتمالات عديدة في العالم. لم أشعر هذا الشعور من قبل، لأني كنت ألتقي بأشخاص بشكل طبيعيّ ويتطوّر الإعجاب إلى حب، إلخ.. بالإضافة إلى عرض الصّورة الرومانسيّة لماهية العلاقة المثاليّة عبر منصات الإنترنت، مما شكّل هذا فجوة بين الواقع والديجيتال(العالم الافتراضي)، بين أداء الناس في كلّ فضاء منهما، وبرأيي يُولِّد هذا أوهام لدى جيل يعيش معظم حياته في طيات العالم الافتراضيّ، ويقع تحت ضغوطات البحث عن شكل علاقة عاطفيّة مثاليّة غير موجودة إلّا بالأفلام والروايات، وهي صورة مشوهة عن العلاقات وعن الحب".
سؤال البحث عن الحب، وعن أنواع الحب أصلًا، وما يُسمى بالحب الحقيقي، جزء منه هو نتاج موروث صنعه الفيلم والرواية والأغنية عن شكل واحد ووحيد للحب، صاحب النهايات السّعيدة وانتصار البطل، ولربما يمتد أيضًا من المفهوم التي تُبنى عليه مؤسّسة الزواج والارتباط العاطفيّ المستمر بشخص واحد، بلا أحكام أخلاقيّة عن ذلك، لكن بتوفّر السوشال ميديا وما يمنحه زمن الديجتال من تواصل وتشبيك مع الناس، وكذلك معرفة، يطرح من جديد على طاولات عديدة أسئلة حول "الحبّ الواحد" مقابل وجود احتمالات وإمكانيات عديدة، ومنها الالتزام العاطفيّ، الجاهزيّة له والخوف منه.
بالطبع، من المهم الإشارة إلى أن هذه الظروف والحالات مختلفة من مكان إلى مكان، من واقع إلى آخر وبلد إلى ثانٍ، لكنها حاضرة في دوائر العديد منا، وحتّى على مستوى تساؤلات ذاتيّة في وقت يستخدم عدد كبير منا هذه المنصات وينكشف للاحتمالات. في حديث مع صديقة متزوجة ومقيمة في برلين، تقول: "أغلب الناس يبحثون عن الحب، ونعم، بالإمكان إيجاده، أنا وجدته، ولا ألقي باللوم كلّه على السوشال ميديا في صعوبة إيجاد الحب، ولا أعتقد أن الحب تغيّر شكله، إنّما مظاهره تغيّرت، فأصبح أكثر بمثابة تصرف عامّ بسبب الإنترنت وما تقدّمه هذه المنصات من صور مثاليّة للعلاقات. من جهة أخرى، أنا متزوجة عن حبّ وسعيدة، لكن أحيانًا، تأتيني هذه الأسئلة حول هل بهذا الالتزام أخسر فرصًا؟ هذا سؤال قاسٍ، وطبيعيّ وشرعيّ في آن، لأن الزواج هو مؤسّسة تفرض ضوابط أخلاقيّة أعلى من الغرائز التي نحاول دومًا السيطرة عليها. وبالتالي، الارتباط هو ليس بالضرورة فطريًا وطبيعيًا، وبتوفّر عوامل تتيح إمكانيّة خوض هذه الأسئلة، نستطيع أن نحكيها على الملأ".
أشار بعض الأصدقاء إلى أن الحبّ يقع اليوم ضمن خانات حددها عصر العولمة، وأن العديد يقنع نفسه بأنه لا يريد الالتزام لأنه سيقع خارج لعبة "السّوق"، إنّ صح التعبير، وبأنه سيخسر فرصًا عديدة إن ارتبط عاطفيًا أو التزم مع شخص واحد. صديق آخر يعيش ببرلين أشار في حديث ما بأن المدينة عبارة عن تطبيق تعارف مليء بالاحتمالات، ومع هذه الفرص، كيف سيجد الناس الحبّ؟
كل هذه الأسئلة شرعيّة، وبالتأكيد هي ثمار تجارب شخصيّة للناس في عصرنا اليوم وفي خياراتهم الفرديّة. ليس بالضرورة أننا نحنّ لإيجاد الحب عند نبع النهر، نحن الذين حكوا لنا عن تلك الأيام، العالم يتطوّر، أشكال التواصل تختلف وتؤثر على عواطفنا وقراراتنا واختياراتنا، نكتشف حقائق جديدة من خلال هذا "السّفر"، كما احتمالات، لربما في ظل الأسئلة كلّها حول الشكل الواحد للحب والأشكال العديدة، حول الالتزام الواحد والفرص العديدة، إن أكثر ما يهمّ، هو أن الحب موجود، وهنالك من لا زال يبحث عنه ومؤمنًا بأنه سيجده، رغم معادلاته وأشكاله التي تتغيّر.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.