رشا حلوة: تجاهل اكتئاب ما بعد الولادة هو العيب
٢٨ يونيو ٢٠١٩على مستوى شخصي، لم أعايش عن كثب حالات لنساء أُصبنَ بما يُسمى "اكتئاب ما بعد الولادة"، مع العلم أني سمعت عن المرض ذاته.
يمكن أن يبدأ الاكتئاب خلال فترة حمل المرأة، ولكن لا يُطلق عليه اكتئاب ما بعد الولادة إلا إذا استمر بعد ولادة الطفل، وهو اكتئاب شائع بين النساء، ولا تعرف النسبة الدقيقة للنساء اللاتي يصبن بهذه الحالة، حيث أن عددا كبيرا من النساء اللاتي يصبن بالمرض لا يصرحن بذلك، لأسباب عديدة، نحاول التعرف عليها. من ناحية، هناك نظرة سلبية في العالم العربي تجاه الاكتئاب، وغالباً ما يتم التعامل معه كـ"تابو"، وفي كثير من الأحيان يتم تجاهله من قبل المريض ذاته أو المحيط القريب منه، تجاهل نابع من فكرة مفادها أيضًا أن المرض النفسي لا يُعامل على أنه مرض، من منطلق أن المعدة تمرض وألمها يُعالج طبيًا، لكن النفس هي شيء آخر، وهذا نابع من العقلية التي ترى المرض النفسي عيبًا وعارًا!
بالعودة إلى النساء، وإلى اكتئاب ما بعد الولادة، هذا المرض الذي يلمس تابوهات اجتماعية عديدة، أولها كما ذكرت أعلاه، يصب في خانة كيف يتم التعامل أو تجاهل الأمراض النفسية اجتماعيًا، كالاكتئاب، والثاني مرتبط بما فُرض من قدسية على فعل وشعور الأمومة، فالأمومة، حسب الموروث الثقافي والاجتماعي العالمي، من المفترض أن تكون "هبة"، لا يشوبها أي شيء. والصورة المرسومة عامة للأم، تفترض أن عليها أن تكون سعيدة بالولادة، بطفلها، أن تتقبّل التغييرات الجسدية والنفسية والحياتية بتفاصيلها الصغيرة بسلاسة وبصدرٍ رحب بلا أي نوع من التذمر، وكأن صفة الأمومة فجأة تنزع عن المرأة إنسانيتها، فتتحوّل إلى "ملاك"، وعليها أن تعطي فقط، لطفلها ولعائلتها، أما عنها فهي تأتي بالمرتبة الأخيرة، إن كان لها مساحة من الأصل.
كان من الصعب أن أجد أما مرّت بتجربة الاكتئاب ما بعد الولادة، بل شعرتُ وأنا أكتب مقالي هذا، بأني لستُ قادرة على طرح سؤال البحث عن أمهات عشنَ هذا الاكتئاب، بسبب حساسية الموضوع. فقررت أن أستفسر على الأقل عن حالة واحدة من خلال محيطي القريب. هدف البحث عن حالة، كان بأساسه الاستماع من قرب لصوت أم عاشت التجربة، وخافت أن تبوح بأحاسيسها أو فُرض عليها اجتماعيًا (متجسّد بالعائلة المصغرة غالبًا) عدم البوح بهذه المشاعر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
في النهاية، وصلت إلى قصّة واحدة، ففي حديث مع وفاء (اسم مستعار)، وهي في منتصف الأربعينات من عمرها من الأردن، أم لولد وبنت، مرّت باكتئاب ما قبل الولادة بعد إنجابها لطفلها الأوّل، قالت: "بعد شهر على ولادة طفلي، بدأت عندي نوبات بكاء وغضب معظم الوقت، عدم رغبة بالأكل، اضطرابات بالنوم، والعناية بطفلي بلا شغف، كأنه واجب فقط. في البداية، لم أقل شيئًا، حتى أني فعلت المستحيل لكي لا أبكي أمام زوجي. لكن في مرة، تجرأت وأخبرت والدتي بحالتي تلك، فكان ردّها الأول "بكفي دلع!".. وفي أحيان أخرى، كان تقول لي بأن هذه هرمونات.. لا أكثر. ولفترة، اقتنعت".
"اقتناع" وفاء، كما أخبرتني وعرفتْ فيما بعد، نابع بالأساس من عدم وعيّها آنذاك، ومن جهل المحيط القريب بأعراض اكتئاب ما بعد الولادة. لكن هذا "الاقتناع" لم يوقف الاكتئاب، فتقول وفاء: "لأني تجاهلته وتجاهله محيطي، أصبح رد فعلي أكثر غضبًا أحيانًا، إلا أني تجرأت وذهبت لاستشارة، وعرفت أني مصابة بالاكتئاب. وخضت فترة لعلاج نفسي، لم أخبر به أحد حتى يومنا هذا".
ما بين الجهل باكتئاب ما بعد الولادة وتجاهله، يقع شعور الذنب، هذا الشعور المتصل بشكل عميق بالأمومة. فأعراض الاكتئاب فيها الكثير من فقدان الرغبة والاهتمام بأي شيء وأحد، وفي حالة اكتئاب ما بعد الولادة، تصبح الأم ضحية العقلية المجتمعية التي تفيد بأن الأمومة بالضرورة خطوة جميلة في الحياة، فتشعر بالذنب إن شعرت بأي اختلاف عمّا كانت من المفترض أن تشعره عندما تصبح أمًا.
في حديث مع المعالجة النفسية، نرمين مطر، والتي تتعامل مع هذا النوع من الاكتئاب، قالت: "موضوع الاكتئاب ما بعد الولادة، مركّب جدًا. من جهة، نعيش في مجتمعات داعمة عائليًا، وهذه نعمة، لكنها نقمة أيضًا. والهالة التي يخلقها المجتمع حول الأم، يجعلها متقوقعة أحيانًا، خاصة في قضايا تابو، مثل الاكتئاب، حيث من المفترض على الأم أن تكون إيجابية إزاء الولادة ومثالية وسعيدة. وفي حالات الاكتئاب، غالبًا ما تخاف الأم بالبوح عن مشاعرها، خوفًا من النقد وشعور الذنب والاستماع إلى تعليقات مفادها أنها لا تقوم بواجبها كأم، وهنا أزمة الموضوع، بأن المطلوب من المرأة والأم أن تتزوج وتنجب وتكون طبيعية مع طفلها، وحقيقة ما تشعر به، يُخفى".
الاكتئاب مرض، الاكتئاب ما بعد الولادة هو مرض أيضًا ويحتاج إلى استشارة وعلاج نفسي، وفي حالات ما، نجد نساء يحتجن إلى أدوية لتخطي ذلك. هنالك ضرورة لرفع وزيادة التوعية في مجتمعاتنا حول الموضوع، هذه الحاجة المرتبطة بقضايا مجتمعية عديدة تصب بما رُسم من دور للمرأة والأم في المجتمعات في ظلّ تمييز مستمر ضدها على أساس جندري. تداعيات كثيرة لتعامل المجتمع بقدسية مع الأم، منها تلك التي تسبب الأذى المباشر لها. لربما، عندما نبدأ بمعاملة الأم كإنسان، لا ملاك ولا مقدسة، ونبدأ بتوزيع مسؤولية تربية الأطفال والاعتناء بالعائلة والبيت بالتساوي بين الوالديْن، سنعيش واقعا أفضل. لا يمكن أن يكون واقعنا أفضل إن لم نعتني بصحّة النساء، الجسدية والنفسية، كأفراد، مجتمعات ومؤسسات.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.