رشا حلوة: أمهات يكافحن وحدهن لكسر "توحد" أطفالهن
٢٢ أغسطس ٢٠١٨لم أكن أعرف شيئًا عن "التوحّد"، ولا أدعي أني أعرف كثيرًا اليوم، لكني أستمع إلى أصدقاء وصديقات، أمهات وآباء، لدى أبنائهم/ بناتهم توحّد. جزء منهم/ن، يشارك قصّصه وآراءه عبر الفيسبوك، أو في جلسات الأصدقاء، منها القصص العامّة، المتعلّقة بالمجتمع المحيط ومؤسسات العناية، ومنها القصص عن التحديات وكذلك الجوانب الحياتية الجميلة في العيش مع ابن أو ابنة لديه/ا توّحد.
في ذاكرتي، تُستخدم كلمة "التوحّد"، وبالأساس كما هي في الإنجليزية "الأوتيزم" كشتيمة جدية أو ساخرة، هذا الاستخدام السيء والسلبي لظروف متنوعة للبشر، مؤقتة أو دائمة، منها التوّحد أو الاحتياجات الخاصّة للشخص أو الإعاقات النفسية أو الجسدية، هي دلالة لكيف يمكن للمجتمعات أن تُعامل أبنائها وبناتها الذين يحتاجون لعناية خاصّة، أيًا كانت، هذه المعاملة التي لا تضع فرد لدية توحّد بعزلة عن المجتمع، إنما في أحيان كثيرة، تساهم في عرقلة مسار عنايته أو علاجه.
من الصديقات التي أقرأ وأسمع لقصصها دومًا مع التوّحد، هي أم نديم، عضو مؤسّس في مؤسّسة التعبير الرقمي- أضف، وتعيش في القاهرة، عن التعامل المجتمعي تجاه التوحّد، قالت: "الوعي للتوحّد غير موجود حتى الآن، في النطاق العامّ فالنظرة الموجدة إليهم مليئة بالأفكار المسبقة، كما عدم معرفة حالات التوحد المتنوعة، منها الحالات التي يكون أصحابها أذكياء جدًا، وبارعين في أمر معيّن، كما هنالك حالات مع ظروف عقلانية أصعب".
في التعريف الرسمي للتوّحد (حسب ويكيبيديا)، هو: "التوحد كما يُعرف باسم الذاتوية أو اضطراب التوحد الكلاسيكي. ويستخدم بعض الكتّاب كلمة "توحد أو ذاتوية" عند الإشارة إلى مجموعة من اضطرابات طيف التوحد أو مختلف اضطرابات النمو المتفشية، هو اضطراب النمو العصبي الذي يتصف بضعف التفاعل الاجتماعي، والتواصل اللفظي وغير اللفظي، وبأنماط سلوكية مقيدة ومتكررة".
في بحثها المتواصل عن التوحد، التي انصدمت من الضعف في المحتوى الجدي عنه، حتى بالإنجليزية، حسب تعبيرها، تقول أم نديم: "خلال بحثي وصلت لمجموعات كبيرة من الناشطين الذين لديهم توحد في العالم، حيث أن وسيلة تعبيرهم هي الكتابة وهي أوسع من مقدرتهم على الكلام، فمن أصعب الأشياء في التوحد هي المقدرة على التعبير عن الكلام الذي في رأسهم. التواصل مع ناشطين، جعلني أفهم أشياء كثيرة كي أساعد أبني، هؤلاء الناشطين لاحظوا أن المحتوى عن وضعهم لا يعبّر عنهم بل فقط عن الأهالي وعذابهم، فكان هذا الشباك هو المحتوى المعرفي الذي تعلمت منه وعرفت كيف أساعد ابني".
الأزمة المرتبطة بالمجتمع عامّة، وتعامله مع التوحّد، ممتدة أيضًا من قلة المسؤولية لسياسية تجاه تقديم فضاءات عناية لمين لديهم/ن توّحد، حيث أن العناية تحتاج إلى تكاليف عالية، خاصّة لأنها تُنفذ فقط ما بين شخص وآخر؛ بين مدرّب وشخص لديه توحّد. غياب مؤسسات عناية حكومية كافية، النابعة من غياب الوعي تجاه التوحد، يعني أن هنالك شرائح اجتماعية عديدة لا يمكن أن تقدّم العناية لأبنائها وبناتها، هذا بالإضافة إلى الضغوطات التقليدية التي يعاني منها الأهالي من مجتمعهم المحيط بأن الطفل لا يتطوّر نموه مثل الآخرين.
في 2012، كتبت أم نديم مقالًا بعنوان "أوتيزم.. لست وحدك"، نُشر تزامنًا مع اليوم العالمي للتوحد الذي يصادف الثاني من نيسان/ أبريل من كل عام. عندها، تم إضاءة الأهرامات في مصر باللون الأزرق، كفعالية لرفع الوعي عن الموضوع. أخبرتني أم نديم، وكانت قد ذكرت هذا بالمقال، بأن كتابته جاءت من غضب إزاء التعامل مع التوّحد بهذا الشكل، وتقول: "جزء من غضبي أنه لم يفكر الإعلام بالتوحد إلا عندما لُوّن الهرم بالأزرق، وعلى أقسى حد، ربط الناس الهرم الأزرق بالتوحّد، بلا إجابات صحيحة عن السؤال ما هو التوحّد؟ هل سيستغل الصحافيون هذا الحدث لبحث أعمق وفحص ما يحتاجه الأهالي على وجه الخصوص؟".
تقول أم نديم أن في الدول العربية، يتوفّر للأهالي العلاج التقليدي، لكن الأزمة هي عدم الوعي أحيانًا عند الأهل حول المسألة، وتضيف: "وفي هذه الحالة، لا يمكن للأبناء أن يحققوا إمكانياتهم، وهذا مخيف. على مستوى العالم، هنالك ازدياد بنسبة حالات التوحّد. أعتقد أن الناس غير مدركة أن التوحّد هو تطوّر للبشرية، وهو رد فعل بيولوجي على أننا لن نقدر التعامل مع هذا العالم، سيكون لدينا طريقتنا للتعامل معه. التكنولوجيا اليوم أعطت حلول عظيمة لمن لديه توحد؛ شركة غوغل على سبيل المثال توظّف مبرمجين لديهم توحّد، وهم من أكثر المبرمجين عباقرة".
صديقة أخرى تشارك قصصها مع ابنها والتوحّد، تعيش في برشلونة قادمة من بيروت. في حديثها عن التعامل المجتمعي مع حالات التوحّد، قالت: "المجتمع لا يساعد أبدًا، بل هو عامل سلبي في حالات كثيرة. خاصة أن التوحّد هو أمر مكتشف حديثًا، والناس غير قادرة على استيعابه بعد، وأن الطفل بإمكانه تجاوز الحالة بمساعدة المجتمع. قررت المجيء لإسبانيا لأن لابني هذا أفضل من بيروت، هنا يوجد دراسات وأبحاث ومتابعة جيدة للمسألة، فرصة ابني لتجاوز حالته هنا هي أكبر قدر الإمكان، وعلى قدر ما يستطيع مقارنة بما كنا عليه في بيروت".
مسألة العناية تمشي يدًا بيد مع التعامل المجتمعي، بشكل أو بآخر، ويؤثر كل عامل فيهما على الآخر، ترى سمر أن المجتمع في إسبانيا مهيئ لاستيعاب حالات التوحّد، وتضيف: "لا أحد يعطي شعورًا للطفل بأن هنالك مشكلة، السائد هو مساعدة الطفل ومنحه ثقة بنفسه، وهذه الثقة مستحيل أن نربيها بمجتمعاتنا، وبحضور هذه الثقة، تتحلل أمور كثيرة لديه، فيتواصل أكثر مع الآخرين، ويتحدث إليهم مع أنه عادة هنالك صعوبات لفظية ولغوية. عندما خرجنا من لبنان، كانت نسبة التوحّد لدى ابني 62 بالمائة، اليوم انخفضت النسبة إلى 28 بالمائة بعد 5 سنوات".
على الرغم من الحديث العامّ عن التوحّد وواقع الدول العربية، لكن بالضرورة أن كل عائلة تحمل ظروفها الخاصّة، سواء التحديات أو الإنجازات، كما اختلاف حالات التوحّد. هنالك من يستطيع أن يوفّر أفضل عناية لابنه/ ابنته وهنالك من زال يبذل مجهودًا لتشكيل ضغوطات على الجهات المسؤولة لمساعدة الأهالي في هذه الحالات، ولتخفيف عنها الضغوطات والألم اليومي، وغيرها من الظروف.
لكن، من الجدير بالإشارة دومًا إلى دورنا الأدنى كأفراد ومجتمعات، هو العمل على الوعي إزاء التوحّد، هذا الوعي الذي بالضرورة سيؤثر على السلطات الرسمية بتوفير العناية والمساعدة اللازمة. في نهاية حديثنا قالت سمر: "أحبّ بلادي كثيرًا، وأحبّ أن أربي ابني فيها، لكن كان من المستحيل أن أفعل ذلك، لأني لو فعلت ذلك، لظلمته".
* الموضوع يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.