الاحتجاجات والحلم بتركيا أخرى!
٣١ مايو ٢٠١٨بنظرات حائرة تتأمل غاي بوراليوغلو مشهد ساحة تقسيم في اسطنبول اليوم. من الجهة اليسرى، يعلو ضجيج العمال أثناء أعمال بناء مسجد جديد بمساحة كبيرة. أما على الجهة المقابلة، فيجري هدم مركز أتاتورك الثقافي، وهو دار أوبرا سابقة ورمز قديم لتركيا الطامحة للانضمام إلى أوروبا.
تسترجع الكاتبة التركية غاي بوراليوغلو، التي ترتدي تنورة وقميصًا أسود وحذاء برباط إلى الأعلى، ذكرياتها مع المكان، وتقول :"بعد احتجاجات منتزه غيزي، قاموا بتدمير كل شيء هنا". وتضيف غاي: " والآن حل الإسمنت في كل مكان محل الشوارع والأشجار التي كانت هنا في السابق ".
في الواقع، لم يتبقى أي شيء يذكر بالاحتجاجات الجماهيرية التي وقعت هنا في قلب المدينة منذ خمس سنوات. وهو الوقت الذي خرج فيه العديد من مواطني اسطنبول إلى الشوارع للتظاهر ضد رجب طيب أردوغان، والذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك. وتقول غاي: "احتجاجات منتزه غيزي، كان لها صدى فريد للغاية، كانت ثورة، وممزوجة بحس الدعابة أيضاً. تلك الاحتجاجات كانت أملنا في مجتمع مختلف".
أكثر من مجرد منتزه
في أوائل صيف عام 2013 تظاهر مئات الآلاف في مدن تركية مختلفة ضد أسلوب أردوغان الاستبدادي وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الإسلاميون. واستطاعت تلك الاحتجاجات جمع فئات مختلفة من المجتمع التركي، من الليبراليين اليساريين والقوميين وعشاق كرة القدم والأكراد والنساء المحجبات. أما شعلة هذه الاحتجاجات فكانت خطة حكومية لإعادة بناء في منتزه غيزي، وقطع أشجار المساحة الخضراء الصغيرة الواقعة على حافة ساحة تقسيم. إذ أراد أردوغان آنذاك إعادة بناء ثكنة عثمانية تم تدميرها عام 1940 هناك، ومن بين أمور أخرى تضمنت الخطة بناء مركز للتسوق هناك.
احتشد المتظاهرون في المنتزه بشكل تلقائي، وكانوا يقومون بحراسة الخيام ليلاً ونهاراً. كما ترددت غاي بوراليوغلو أيضاً على المنتزه مرات عديدة، وتتذكر قائلة: "لقد التقيت بالعديد من الأصدقاء القدامى مرة أخرى". وتضيف: "في أحد الأركان هنا، طهى الناس الطعام معاً، في ركن آخر رقصوا، والجميع كان يساعد بعضه البعض، ومن دون مقابل مادي، كنا سعداء". واصل النشطاء احتجاجاتهم لأسابيع داخل منتزه غيزي، متحدين خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع. وانتقلت صورهم حول جميع أنحاء العالم، وكذلك كلمات رئيس الوزراء آنذاك أردوغان، والتي وصف فيها المتظاهرين بـ "اللصوص" و "الإرهابيين".
"مؤامرة ضد تركيا"
كان من الصعب معرفة حجم الدعم، الذي تحظى به احتجاجات منتزه غيزي. إذ وفقًا لاستطلاع رأي أجراه معهد كوند/ Konda للأبحاث والاستشارات، رأى 40 في المائة من المشاركين في الاحتجاجات على أنها "نضال ديموقراطي من أجل حقوق المواطنين ومن أجل الحرية"، بينما رأى أكثر من 50 في المائة منهم في الاحتجاجات "مؤامرة ضد تركيا"، هذا الرأي كان منتشراً على نطاق واسع بين الناخبين في حزب العدالة والتنمية، حسب كوندا.
وثّقت غاي بوراليوغلو ذكرياتها الشخصية عن هذه الفترة في أعمال أدبية. وتمت ترجمة واحدة من قصصها القصيرة إلى اللغة الألمانية. ومما جاء فيها: "مسلّحون يرتدون اللباس الموحد داخل عربات قتالية ويقومون باحتجاز الناس"، مضيفة "يوجهون خراطيم المياه ضد أجسامهم الضعيف ويملئون المكان بالغاز المسيل للدموع". أما أبطال قصصها فهم مواطنون يتمتعون بالجرأة، رجال ونساء، مراهقون ومتقاعدون يعارضون سلطة الدولة. وتقول غاي أيضا: "الناس يستخدمون أجسامهم كدروع ضد المسلحين ويتقدمون متحدين الغاز والضباب والدخان وهم يضحكون".
"أقلامنا تواصل الكتابة"
لقد سُمح بالإبقاء على منتزه غيزي حتى اليوم، لكن أردوغان قمع الاحتجاجات في النهاية، والتي قتل خلالها ما لا يقل عن خمسة أشخاص وأصيب أكثر من 8 آلاف شخص بجروح. ومنذ ذلك الحين، تتخذ الشرطة اجراءات صارمة وتمنع المظاهرات المناهضة للحكومة في ساحة تقسيم. كما يتم التدخل بسرعة حتى في المسيرات السلمية الصغيرة والتي يتم حلها بسرعة.
وسع أردوغان، الذي يشغل منصب الرئيس في الوقت الحالي، نفوذه أكثر من قبل. خاصة بعد الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016، والذي تعرض بعده مئات الآلاف من الأشخاص إلى الاعتقال أو التسريح أو الإيقاف عن العمل. كما غادر العديد من الفنانين والأكاديميين والمثقفين تركيا، للعيش في ألمانيا وهولندا وفرنسا. غير أن غاي بوراليوغلو قررت البقاء في تركيا. " نعم، البعض منا يقبعون في السجون، الكثير منهم فقدوا وظائفهم، كما أُجبر آخرون على ترك البلاد والذهاب إلى المنفى، لكننا لن نستسلم، ولدينا أفكارنا وأقلامنا، و سنستمر في الكتابة"، تقول مضيفة: "لا نريد لأطفالنا أن يتعلموا من كتب التاريخ الخاضعة للرقابة عما حدث في هذا البلد، ولكن من رواياتنا وكتبنا نحن".
الحلم بتركيا أخرى
في غضون أسابيع قليلة، ستبدأ الانتخابات الرئاسية في تركيا ويسعى الرئيس رجب طيب أردوغان إلى البقاء في منصبه. وفي حالة فوزه في الانتخابات، فإن التغييرات الدستورية العميقة التي فرضها في استفتاء العام الماضي ستدخل حيز التنفيذ. ومن ثم تصبح تركيا نظامًا رئاسيًا و يصبح أردوغان رئيسًا بسلطات غير محدودة تقريبًا. ويبقى من غير الواضح إن كانت المعارضة ستنجح هذه المرة في إيقافه. الكاتبة غاي بوراليوغلو لم تفقد الأمل بعد، "احتجاجات غيزي كانت حلماً، واحترام الإنسانية كان شعارها، لقد عشنا هذا الحلم مرة واحدة، ولم لا نعيشه مرة أخرى؟".
جوليا هان، اسطنبول/ إ. م