"مسار العدالة الانتقالية في تونس يحتضر بتواطؤ عدة أطراف"
٢٩ مارس ٢٠١٨يحتدم الجدل في تونس حول مستقبل عمل هيئة الحقيقة والكرامة التي أسست ضمن اجراءات الإنتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة، وتتمثل مهمة الهيئة في كشف حقيقة انتهاكات حقوق الانسان" بين 1955 و2013 في البلاد وجبر الضرر للضحايا ومحاسبة المسؤولين عن الإنتهاكات. وتشمل هذه المرحلة فترات حكم الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي، وكذلك بعض الحكومات بعد ثورة 2011 التي أطاحت بن علي.
في حواره مع DW عربية يسلط خبير القانون الدستوري التونسي جوهر بن مبارك الضوء على خلفيات التجاذبات حول هيئة الحقيقة والكرامة والمخاطر التي تهدد مسار الإنتقال الديمقراطي في تونس التي تعتبر إستثناء من بلدان الربيع العربي.
DW عربية: لماذا كل هذا الجدل حول هيئة الحقيقة والكرامة؟ هل يتعلق الأمر بشخص رئيستها سهام بن سدرين أم بمسار العدالة الإنتقالية نفسه؟
جوهر بن مبارك: هو حسب رأيي خلاف يتعلق بسهام بن سدرين نفسها التي أٌعتبرت شخصية غير توافقية وغير محايدة، رغم أن تعيينها على رأس هيئة الحقيقة والكرامة كان نتيجة صفقة التوافق الوطني الذي أقره الرباعي الحاصل على جائزة نوبل في سنة 2014، ولكنه ايضا خلاف حول مسار العدالة الإنتقالية.
هنالك بالطبع أطراف موجودة في سلطة الحكم و مجلس نواب الشعب ليست لها مصلحة في إنجاح مسار العدالة الإنتقالية. ويمكن القول إن مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والادراية على حد سواء لم تسهل عملية العدالة الإنتقالية وعطلت عمدا هذا المسار بحجب الوثائق والمعطيات ورفضت التعامل بإيجابية مع هيئة الحقيقة والكرامة.
إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة إذا تم سيحدث شرخا في التوافق بن حزبي النهضة الإسلامي ونداء تونس الليبرالي، ماهي تداعيات ذلك على المشهد السياسي وعلى أوضاع البلاد بصفة عامة؟
الحديث عن انهيار التوافق سابق لأوانه حسب رأيي، فالخلاف القائم في البرلمان بين كتلة نداء تونس وكتل برلمانية أخرى من بينها حركة النهضة هو مؤشر إضافي على وجود شروخ في هذا التوافق. ولكن لا يمكن التأكد من صلابة هذا التوافق أو من هشاشته إلا بعد الإنتخابات البلدية في آيار/مايو القادم، فالصراعات الحزبية الموجودة الآن يمكن ان تكون مجرد مناورات إنتخابية كما يمكن لها بالفعل ان تكون بداية الإنهيار السياسي.
أعلنت الهيئة أنها ستواصل عملها على الرغم من قرار البرلمان وقف التفويض الموكل لها. ماهي قانونية هذا القرار؟
قرار مواصلة الهيئة لأعمالها هو قرار قانوني وفق الفصل 18 من قانون 2013 المنظم للعدالة الإنتقالية، وما قام به البرلمان من تصويت ضد قرار هيئة الحقيقة والكرامة بتمديد مدة عملها بستة أشهر هو أمر باطل قانونيا، فالقرارات الإدارية لا تخضع للمراقبة التشريعية حسب القانون العام و القانون الإداري. إذا الهيئات والقرارات الإدارية لا تخضع إلا لرقابة قضائية عن طريق المحكمة الإدارية والهيئة ستواصل اذا عملها بمقتضي القانون.
ويجب التذكير ايضا بأن البرلمان نفسه كان قد صوت في كانون الأول/ديسمبر الفارط على تمديد ميزانية الهيئة لمدة سنة كاملة لإستكمال أعمالها، وقامت الهيئة بالإجراء على نحو سليم بإعلام مجلس نواب الشعب بقرار التمديد.
تقول رئيسة الهيئة أن أطرافا سياسية تعمل على إعادة البلاد إلى مربّع الديكتاتورية والإفلات من العقاب، قد ساهمت في تعطيل عمل الهيئة، من هي هذه الاطراف حسب رأيك؟
بغض النظر عن تصريحات السيدة بن سدرين، تقوم كل تجارب الإنتقال الديمقراطي الناجحة على قاعدة أساسية وهي ان العدالة الإنتقالية لا تنجح إلا بوجود دعم سياسي. ولكن منذ صعود حزب نداء تونس إلى الحكم في سنة 2014 لم تعد للعدالة الإنتقالية رافعة سياسية. يمكن القول إذا ان القوى الحاكمة اليوم والماسكة بالسلطة التشريعية و السلطة التنفيذية ترفض إستمرار هذا المسار بل وتعتبر انها متضررة منه وهو ما شجع ثقافة الإفلات من العقاب ورفض الإعتذار من الشعب على المظالم التي ساهمت هذه الأطراف في إرتكابها قبل الثورة.
وحتى حركة النهضة والتي تضم في صفوفها آلافا من ضحايا منظومة الحكم السابق تواكلت كثيرا في تعاملها مع ملف العدالة الإنتقالية، وذلك في إطار ما يسمى بسياسة التوافق. أعتقد ان حركة النهضة ستقوم بكل شيء من أجل إستمرار التوافق بين الشيخين (راشد الغنوشي و الباجي قائد السبسي) حتى على حساب بن سدرين و هيئة الحقيقة والكرامة.
أي مصير إذا للعدالة الإنتقالية في حال توقف عمل هيئة الحقيقة والكرامة؟
لن يتوقف عمل الهيئة إلا بعد ان تتخذ هي نفسها قرارا بإستكمال الأعمال وإصدار التقرير النهائي وتقديم التوصيات والعمل على حفظ الذاكرة الوطنية. للسلطة الحاكمة اليوم وسيلة واحدة لإيقاف عمل الهيئة وهي إستخدام القوة العامة، ومنش أن ذلك أن يؤدي طبعا إلى أزمة سياسية كبيرة، وايضا على صعيد علاقات تونس الدولية، فإجهاض مسار الإنتقال الديمقراطي في بلد مثل تونس يمكن أن تكون له تداعيات وخيمة على صورة تونس دوليا، وحتى دعم المجتمع الدولي لها كديمقراطية ناشئة وهو ايضا خطر على إقتصاد تونس وأمنها الإجتماعي.
ماهو إذن مآل عملية الإنتقال الديمقراطي في تونس التي يعتبرها العالم إستثناءا بين دول الربيع العربي؟
لقد نبهنا قبل صدور قانون المصالحة الإدارية الذي تقدم به الرئيس الباجي قايد السبسي بأن هذا القانون هو بداية إجهاض مسار الإنتقال الديمقراطي، وكان رد فعل المجتمع الدولي بتصنيف تونس ضمن القائمات السوداء لتبييض الاموال والفساد الإداري رسالة واضحة. الإستمرار في إعطاء مؤشرات تعطيل و تهديد مسار الإنقال الديمقراطي سيساعد على تزعزع صورة تونس كبلد قادر على إرساء الديمقراطية.
أعتقد أن الإنتقال الديمقراطي في حالة إحتضار ومحاولات إفشاله قادمة من كل صوب وحدب، فهنالك اليوم من يتحدث عن دعوات لتغيير النظام السياسي وتعديل الدستور وإفشال مشاريع مثل المحكمة الدستورية وغياب هيئات دستورية قارة لمحاربة الفساد ودعم حقوق الإنسان والعديد من إستحقاقات الإنتقال الديمقراطي. كل المؤشرات تدل على ان المنظومة الدستورية و والديمقرطية إجمالا تتعرض إلى قصف ممنهج من طرف قوى النظام السابق.
شبهتَ فشل العدالة الإنتقالية بالجرح الذي سترثه الأجيال القادمة. لمن تحمل مسؤولية "الفشل التاريخي"؟
اعتقد ان المناخ السياسي العام الآن لا يسمح بإنجاز مهام العدالة الإنتقالية والتي تهدف إلى الوصول إلى العدالة الشاملة وأفضٌل ان تبقى الجراح مفتوحة وأن لا يغلق ملف العدالة الإنتقالية بشكل مصطنع دون معالجة حقيقية للورم الداخلي. ادعو سهام بن سدرين إلى الإستقالة و لتكتب رسالة للرأي العام التونسي والدولي لتقول فيها أن المناخ السياسي الحالي لا يسمح بإستكمال العدالة الإنتقالية ولتبقى الجراح مفتوحة للاجيال القادمة ربما تكون المناخات في المسقبل أفضل والصراعات أقل.
أجرت الحوار : أسماء العبيدي
*جوهر بن مبارك هو محلل سياسي تونسي وأستاذالقانون الدستوري بجامعة تونس، ويرأس "شبكة دستورنا" غير الحكومية.