حنة آرندت في مئويتها الأولي: أيقونة العداء للشمولية والدفاع عن أولية الحرية
١٦ أكتوبر ٢٠٠٦"كل محاولة لإرضاء الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية) تشبه في الواقع شخصا يطعم تمساحاً جائعاً آملاً أن يكون هو نفسه أخر من يفترسه هذا التمساح"، لا تعبر هذه المقولة الشهيرة لحنة آرندت (1906ـ 1975)، أحد أهم رائدات الفكر السياسي النقدي في القرن العشرين، عن ماهية وجوهر فلسفتها وطبيعة عملها السياسي المعادي لكل أشكال الأنظمة التوتاليتارية فقط، بل إن محطات سيرتها الذاتية تعتبر بحد ذاتها تجسيدا لأهم أحداث وخصائص هذا القرن الدموي. واقتباسا لتحليل المؤرخ الشهير إرنست جيلنر فإن "حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية".
الحقبة النازية نقطة تحول في حياة آرندت
ولدت حنة آرندت قبل 100 عام في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1906 في مدينة هانوفر في محيط يهودي ألماني محب للأدب والفلسفة، ثم درست الفلسفة في جامعة مدينة ماربورغ، والتي ارتبطت خلالها بعلاقة غرامية مع الفيلسوف الشهير مارتين هايديغر أطلق عليها اسم "علاقة حب القرن العشرين". لكن الطالبة الموهوبة اضطرت إلى ترك ماربورغ، لأن هايديغر، الذي اعتبرته "ملكاً خاصا في مملكة التفكير"، كان متزوجا في محيط كاثوليكي محافظ، لتكمل دراستها عند الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرغ، التي قدمت فيها أطروحة الدكتوراه في عام 1928.
جاءت صدمة وصول النازيين وإيديولوجيتهم الشمولية إلى الحكم في ألمانيا في عام 1933 لتشكل نقطة تحول مركزية في حياة آرندت دفعتها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري البحت والتوجه إلى العمل السياسي بشكل عملي. ففي مقابلة شهيرة أجريت معها في عام 1972 أشارت أرندت إلى السؤال الرئيسي، الذي هيمن على تفكيرها آنذاك قائلة: "لقد قمت بترديد جملة واحدة وهى: عندما يُهاجم الإنسان كمواطن يهودي، فإنه يجب عليه الدفاع عن نفسه كمواطن يهودي، ليس كألماني أو كمواطن أخر. وعمليا يعني هذا: ماذا أستطيع أن أفعل في هذه اللحظة؟".
"لا يوجد حاضر بدون تفكير ثاقب"
وفي صيف عام 1933 اعتقلت المخابرات النازية حنة أرندت، ثم أطلقت سراحها فيما بعد. ثم نجحت هذه "اليهودية الألمانية المطاردة من قبل النازيين"، على حد تعبيرها، في الهروب من براثن النازية إلى باريس ثم إلى نيويورك، التي بدأت فيها عملها السياسي الحقيقي، حيث عملت صحفية، ومراجعة لغوية ومحاضرة جامعية. وفيما بعد وضعت هذه الناشطة صاحبة النظرة التحليلية الثاقبة كل طاقتها وموهبتها في خدمة المنظمات اليهودية العاملة في نيويورك، التي أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا والعمل على إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين التاريخية.
"استكشاف أصول الأنظمة الشمولية"
لكن المكانة المرموقة، التي تتبوؤها حنة أرندت في حقل العلوم السياسية، تعود في المقام الأول إلى كتابها الموسوعي "أصول الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية)"، الذي صدر في عام 1951. ففي هذا المرجع الكلاسيكي وضعت أرندت الشكلين الأكثر بروزا للأنظمة التوتاليتارية وهما النازية الألمانية والستالينية الروسية تحت المجهر، كما شددت على أن "هذه الإيديولوجيات تشكل انبثاقا لظاهرة جديدة جذريا تجبر كل الباحثين على القيام بمراجعة كاملة لأدوات التحليل العلمي المعهودة، علاوة على أنها انعطافة نكوصية لم يشهدها تاريخ الفكر الأوروبي قبل ذلك". وعلى هذا النحو توضح آرندت أن "الأصالة المرعبة للشمولية لا تنشأ عن أن فكرة جديدة جاءت إلى العالم، وإنما على شرخ جديد سحق كل مقولاتنا السياسية وكل مقاييسنا الخاصة بالحكم الأخلاقي. فجبروت الحدث تفوق هنا على المفهوم". ورغم فاشية الجوهر الإيديولوجي للنازية والستالينية، إلا أن السمة الشمولية تظهر جليا في هدف هذه الأنظمة، الذي لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب، بل يمتد ليـ"يشمل" كل المجتمع ويجسد التماثل الكامل بين الحزب الحاكم والدولة.
نقد لاذع للرؤية الصهيونية
ورغم عملها السياسي في خدمة المنظمات اليهودية، إلا أن هذه "المنبوذة الواعية" بقيت ملتزمة بتعاطيها النقدي مع توجهات النخبة اليهودية قبيل ولادة دولة إسرائيل. فحنا أرندت قامت بتفنيد أسطورة "شعب بلا أرض يحتاج إلى أرض بلا شعب" الصهيونية، عندما أشارت إلى أن "هذا الوطن غير موجود على الخريطة". كما شددت في معرض نقدها المبدئي لإستراتيجية عمل نخبة "الواقعية السياسية الصهيونية"، التي قادها هرتزل، على أن "قياديي الحركة الصهيونية تناسوا هذه الحقيقة"، معتبرة أن ذلك يعود إلى "ابتعاد هؤلاء عن المثالية الأدبية اليهودية واندراجهم في لعبة القوى العظمى القائمة على منطق القوة".
وفضلا عن ذلك هاجمت الفيلسوفة الملتزمة أرندت مؤسس دولة إسرائيل دافيد بن غوريون، الذي كان يوصف في المرحلة السابقة لتأسيس إسرائيل بالاعتدال، واعتبرته "أصولي قوموي يحاول الهيمنة على الشعوب المتوسطية ولا يحاول كسب تعاطفها. " فالعمل السياسي يبقي، وفق رؤية حنة آرندت، بالدرجة الأولى مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر! كما أن مغزاه الحقيقي يجب أن يتمثل في الدفاع عن حرية وآدمية الإنسان بغض النظر عن المكان والزمان!