حضور التاريخ بين الوعي به وتغييب دروسه
تمكن الجيش الأحمر قبل 60 عاماً من رفع علمه على أنقاض مدينة برلين، عاصمة "الرايخ الثالث". ورغم هذا البعد الزمني إلا أن وقائع الحقبة النازية وتداعيات وصول النازيين إلى سدة الحكم، وخاصة الحرب العالمية الثانية، لا تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية الألمانية. وفي حين تؤكد النخبة السياسية الألمانية حقيقية التوجه الديمقراطي الجديد لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وعلى أن مسئولية ألمانيا الأخلاقية والتاريخية "جزء من هويتها الديمقراطية"، تم إعادة الاعتبار لكثير من النازيين القدامى والسماح بتوليهم مناصب مهمة في الدولة الألمانية الجديدة، وخاصة في عهد المستشار الأول ادينار. هذا الأمر طرح تساؤلات مثيرة للجدل حول طرق وسبل التعاطي مع هؤلاء "المجرمين".
كما يأتي تأكيد المستشار الألماني على أن "إن جذور ما تم تشييده في الخمسين عاماً الأخيرة تعود إلى الوعي والتصميم على عدم السماح بتكرار ذلك" في ظل تزايد المخاوف من عودة الأحزاب النازية إلى الحياة السياسية الألمانية وهو ما يمثل تحدياً كبيراً وجديداً من نوعه لعملية اتخاذ القرار السياسية الديمقراطية في ألمانيا. ويكمن جوهر خطورة هذا التطور في التحسن الملحوظ في عمل هذه الأحزاب على الصعيد التنظيمي ومحاولاتها استغلال الخوف المنتشر من ارتفاع معدلات البطالة لكسب المزيد من المؤيدين لأيديولوجيتها الشمولية وفرض نفسها كجزء "طبيعي" من المجتمع الألماني.
معايشة التاريخ عن قرب
يسعى المعرض الذي افتتح قبل أيام في متحف التاريخ في العاصمة الألمانية برلين تحت عنوان "1945، الحرب وعواقبها" إلى إتاحة الفرصة أمام الجيل الشاب لمعايشة الوقائع التاريخية عن قرب. فهو لا يهدف إطلاقاً إلى إعادة سرد للتاريخ الألماني بأسلوب وعظي، بل يريد أن يوجه رسالة جوهرها أنه من الممكن تصور ومعايشة وقائع الحرب بعد 60 عاماً من انتهائها. ورغم وجود قراءات مختلفة لتداعيات التاريخ إلا أنه لا يزال من الصعب نسيان بعض الظواهر والسلوكيات البشعة التي رافقتها مثل منظر ترحيل اليهود وضحايا الإرهاب النازي إلى معسكرات الاعتقال أو الإبادة.
خطر تسييس المعاناة الإنسانية
التطورات السياسية الجديدة والاهتمام "الجديد من نوعه" بقضية ومعاناة الشعب الأرمني تعطي مثالاً نموذجياً لخطورة تسييس المعاناة الإنسانية. فهذا الاهتمام يتزامن مع الجدل الحامي الوطيس حول أحقية وأهلية الدولة التركية الحديثة للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي. فالخطر الكبير الذي يزيد الطين بلة في هذا السياق هو نية الكثير من سياسي النخبة الأوروبية المحافظة استخدام "المعاناة الأرمنية" كحصان طروادة لإجهاض انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك فقد بدأ الاهتمام بقصة المعاناة الطويلة للشعب الأرمني بداية عقد الثمانينات وبالتزامن مع تغير موازين القوى في العالم وشيوع حماية الأقليات وحقوق الإنسان.
غياب الوعي العربي بالتاريخ
التاريخ يلقي بظلاله على الحاضر، ويهبه زخماً جديداً يمكن أن يساهم في إثرائه أو في التعاطي التجميلي غير النقدي معه. وهنا تكمن مهمة المفكرين والباحثين العرب، لا في إعادة صياغة فلسفات التاريخ الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاصة التي صاغت التاريخ من منظورها الخاص ووضعت الحضارة الغربية في كمرحلة من مراحل تطور الإنسانية، بل في إحياء أو استحضار الروح والمنهجية النقدية التي تميز بها العرب في العصور الوسطي. فوعينا بالتاريخ ما زال غائباً. أين المعاهد والمؤسسات القادرة على البحث عن أسباب هذا الغياب، وتعريف مقومات الحضور. علاوة على ذلك لا يمكن لشعب أو لأمه القيام بمشروع نهضوي دون الوعي النقدي بتاريخها لاستنباط الدروس منه. تطور فلسفة تاريخية خاصة هو المؤشر على ديناميكية الشعوب، فمن وعي التاريخ في صدره، أضاف أعماراً إلى عمره.
لؤي المدهون