حشود "جمعة النصر" تطالب بـ"تطهير البلاد"
١٩ فبراير ٢٠١١لم يكن هناك موطئ لقدم أثناء صلاة "جمعة النصر" في ميدان التحرير، ذلك الميدان الذي كان طوال ثمانية عشر يوماً قلب ثورة 25 يناير النابض. أعداد غفيرة تقدر بأكثر من مليون افترشوا الميدان والشوارع المحيطة به، وفي صدر الميدان اعتلى المنصة الشيخ القرضاوي الذي أمّ جموع التلفزيون في صلاة نقلها التلفزيون المصري مباشرةً على الهواء.
عقب صلاة الجمعة انطلقت الجموع إلى ميدان التحرير ومنه إلى منطقة وسط البلد. الأعلام الكبيرة ترفرف في كل مكان، البعض رسم على وجنته علماً صغيراً بألوانه الثلاثة، الأحمر والأبيض والأسود، والبعض الآخر ارتدى باروكة بألوان العلم المصري، وهناك من حمل أعلاماً صغيرة تباع على كل أرصف وسط البلد بجنيه واحد فقط، "علشان الثورة" كما يردد البائعون.
أجانب يحتفلون مع المصريين بالحدث التاريخي
أنظر حوالي فأرى مصريين من كافة الأعمار والفئات، منقبات ومحجبات وملتحين، شباباً يرتدون ملابس عصرية وسراويل "ساقطة"، أرى صلباناً ومصاحف، وأطفالاً يساعدهم الجنود في الصعود إلى الدبابات رافعين علم مصر ليأخذوا الصور التذكارية. حتى ضباط الشرطة خرجوا بزيهم الرسمي للاحتفال بـ"جمعة النصر".
تسود الميدان أجواء احتفالية تشبه أجواء "شم النسيم" عندما تخرج العائلات المصرية كلها للاحتفال بمقدم الربيع؛ أجواء بهجة وشعور بالانتصار وكأن مصر قد ربحت كأس العالم في كرة القدم، أو كأن المنتخب القومي – مثلما قال أحد المتظاهرين – قد هزم منتخب الجزائر في نهائي أفريقيا ثلاثة صفر. ألمح فتاة أجنبية تلوح بعلم مصر مع صديقها، ومن الكتابة على الـ"تي شيرت" أعرف أنهما ألمانيان. تقول لي نيكول إنها مقيمة في مصر وخرجت لتعبر عن فرحتها بـ"الحدث التاريخي"، ولتتمنى للمصريين انتقالاً موفقاً إلى فترة ديمقراطية حقيقية".
"يا بنوك سويسرا، عايزين فلوسنا"
لكن هذه الأجواء المهرجانية لا تعني أن السياسة كانت غائبة عن "جمعة النصر". على العكس، كان الميدان يغلي، وكان المرء يلمس الغضب العارم على النظام القديم الفاسد في كل خطوة يخطوها. الجملة الأكثر تردداً هي: "كل النظام القديم لا بد أن يُحاكم، وإلا لن نكون فعلنا شيئاً"، أما الهتافات الأعلى فهي: "الشعب يريد تطهير البلاد" و"يا بنوك سويسرا، عايزين فلوسنا".
لافتات عديدة عليها صور لشبان في عمر الزهور تُذّكر بشهداء هذه الثورة، وبأن مطالب الثورة لم تتحقق كلها بعد، وخاصة إلغاء قانون الطوارئ وحل "حكومة النظام الساقط" وتعيين حكومة من التكنوقراط. امرأة محجبة في الخمسين من عمرها تقف غاضبة في نهاية شارع قصر النيل المؤدي إلى ميدان التحرير وتصرخ قائلة: "مفيش حاجة اتغيرت، الحكومة زي ما هي، الشعب زي ما هو".
وفي الوقت الذي احتشدت فيه الجموع الغفيرة في ميدان التحرير، تجمع المئات في ساحة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين حاملين لافتات تعبر عن "حبهم وامتنانهم" للرئيس، و"أسفهم" على ما حدث في التحرير ومطالبين بتكريمه. وكانت بعض المجموعات على الفيسبوك قد أطلقت هذه المبادرة تحت عنوان "يوم رد الجميل"، وبدأت التظاهرة عقب صلاة الجمعة مباشرة، وهتف المتظاهرون: "الشعب يريد تكريم الرئيس" و "يا مبارك ارفع راسك كلنا عارفين إخلاصك".
الثورة قضت على الفياغرا!
وبعيداً عن تلك المظاهرة الصغيرة، كان الآلاف يجلسون في مقاهي وسط البلد بعد انتهاء صلاة الجمعة. على مقهى "زهرة البستان" بالقرب من ميدان التحرير التقيت بمجموعة من الشبان الثوار وبمجموعة من المثقفين. يستقبلني الشاعر عبد المنعم رمضان ببهجة ونشوة ويقول لي مازحاً: "من يوم ما قامت الثورة لم أعد أستخدم الفياغرا".
يجلس الثوار على المقهى ويتذكرون أيام الاحتجاج والمبيت في ميدان التحرير، ويؤكدون أن المنعطف المهم في الثورة كان قرار المبيت والاعتصام في ميدان التحرير في ليلة الخامس والعشرين من يناير. يقول الناشط باسل رمسيس: "تعامل معنا الأمن كما تعامل مع مظاهرات الطلبة عام 1972. آنذاك ضرب الأمن المتظاهرين ليلاً، فتفرقوا وانتهت الاحتجاجات." أما الصحفي والشاعر الفلسطيني طارق حمدان – الذي حضر الثورة منذ بدايتها - فيؤكد على حالة اليأس التي انتابت قطاعاً كبيراً من الناس. "ذكرني ذلك بالانتفاضة الفلسطينية. عندما يصبح الشاب يائساً ويشعر أن ليس لديه ما يخسره، من الممكن أن يفعل أي شيء. لقد التقيت شباناً كانوا يعلمون أنهم سيواجهون قوات أمن عاتية، غير أنهم كانوا يؤكدون: نحن لا نهاب الموت".
تخوفات من الإخوان المسلمين
خلال التظاهرات التي اندلعت بعد صلاة الجمعة رأيت مجموعة من الملتحين يمرون بجوار المتحف المصري وهم يحملون علم مصر ويهتفون: "الله وحده أسقط النظام". هذا المشهد فجر تخوفات كثيرة يحملها عديدون، لا سيما من اليساريين والأقباط، تجاه الإخوان المسلمين. هل يريدون أن "يستولوا" على الثورة؟ المحلل السياسي الدكتور نبيل عبد الفتاح لا يعتقد ذلك، ويرى أن تركيبة الإخوان الأبوية المنغلقة لا بد أن تتغير عندما يتحولون إلى حزب سياسي. ولكن ألا يضمر الإخوان غير ما يظهرون؟ على ذلك يرد الباحث في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية قائلاً: "الازدواجية في الخطاب وإظهار غير ما يبطن المرء جزء من التراث والثقافة السياسية الموجودة في البلاد، ولا يقتصر هذا على الإخوان."
ولكن ما مستقبل الثورة؟ وماذا تخبئ الأيام القادمة؟ مَن يرأس الحكومة الانتقالية؟ ومن هو رئيس مصر القادم؟ وهل يظل النظام المصري نظاماً رئاسياً أم يصبح نظاماً برلمانياً كألمانيا مثلاً؟ وكيف يتحسن الوضع الاقتصادي في ظل الاحتجاجات والاعتصامات المنتشرة في كل محافظات الجمهورية؟ هذه هي الأسئلة التي تشغل بال الجميع، وهذه هي الأسئلة التي تدور حولها نقاشات الناس، سواء على المقهى أو في التاكسي أو في برامج التلفزيون الحوارية. مناخ الحرية السائد فجر رغبة الناس في الكلام والنقاش السياسي. ويتفق كثيرون على أن القادم لن يكون بأي حال أسوأ من العهد "البائد الفاسد"، وأن الطريق ما زال طويلاً في مصر، فما حدث في يوم الحادي عشر من شباط/ فبراير - يوم تنحي مبارك – لم يكن سوى البداية.
سمير جريس – القاهرة
مراجعة: عماد م. غانم