حزب ''النهضة'' الإسلامي وتحديات الديموقراطية في تونس
٢٠ نوفمبر ٢٠١١يتوقع أن تكون للنجاح اللافت للأنظار في تنظيم أول انتخابات حرة وديمقراطية تأثيرات بالغة وتداعيات إيجابية مرتقبة في دعم مسار الدمقرطة في الوطن العربي ودحر شتاء قاس من الاستبداد دام عهودا طويلة وإحلال الربيع العربي محله. كما تعتبر نسبة المشاركة العالية والقياسية في الانتخابات إلى جانب النتائج التي أفضت إليها صناديق الاقتراع مؤشرا واضحا على اهتمام التونسيين والتزامهم الكبير بالمشاركة في بناء وصياغة الحياة والتركيبة السياسية لبلادهم من جديد.
أكثر الفائزين وضوحا في هذه الانتخابات هي الأحزاب السياسية التي كانت تمثل المعارضة الراديكالية والشديدة للنظام القديم وهي التي بنت برنامجها الانتخابي على القطيعة معه. إذن اختار التونسيون في غالبيتهم أن يمنحوا أصواتهم لمن يمثل نقيضا ونقضا للنظام السابق وهم بذلك يصوتون لصالح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية التي تعتبر المطالب الأساسية لثورة الحرية في تونس. منح غالبية من الناخبين ثقتهم في المرتبة الأولى لحركة النهضة الإسلامية من أجل تحقيق هذه المطالب، ثم تأتي الأحزاب الليبرالية العلمانية ذات الميول اليسارية مثل المؤتمر من أجل الجمهورية برئاسة الدكتور المنصف المرزوقي والتكتل من أجل العمل والحريات برئاسة الدكتور مصطفى بن جعفر ، و تجرى حركة النهضة المشاورات والمفاوضات الجدية مع هذين الحزبين السياسيين بدرجة أولى ومع بقية الأحزاب العلمانية الأخرى من أجل تشكيل حكومة ائتلافية موسعة ومستقرة.
سر فوز الأحزاب الإسلامية
ومع من أن فوز حزب النهضة الإسلامي في الانتخابات لم يكن في حد ذاته أمرا مفاجئا لكثير من التونسيين إلا أنه أثار انتباه المراقبين للشأن التونسي وحظي بالاهتمام الواسع في الداخل والخارج، و بالرغم من الشعور بالإحباط وعدم الرضا بالنتائج المتحققة فقد اعترفت كل الأحزاب والنخب العلمانية بنزاهة نتائج الانتخابات وبذلك بالفوز العريض الذي حققته حركة النهضة، الأمر الذي لم يسكت الجدل الدائر والذي لا يخلو من انفعالية واستقطاب شديدين حول الكفاءة والأهلية الديمقراطية للإسلاميين وللإسلام السياسي عموما. تحتل حركة النهضة ضمن سياق الحركات الإسلامية على مستوى عالمي موقعا رياديا تتميز فيه بالاعتدال والانفتاح مقارنة ببقية الحركات الإسلامية، إلا أن هذا الأمر لا ينفي تعدد وتنوع اتجاهات مناصريها حيث تضم في صفوفها مثقفين منفتحين ومحافظين وحتى سلفيين. في هذا المقام قد تساعد المراجعة المتأنية والمتتبعة للخطاب الإيديولوجي والسياسي لحركة النهضة من خلال الرجوع إلى بياناتها و أدبياتها وكتابات رموزها على مدى العقود الأخيرة لتحقيق قراءة ومقاربة أكثر توازن وعقلانية وأقل عصابية وانفعالية لهذه الإشكالية المطروحة.
ومن العوامل المؤثرة في مسيرة حركة النهضة هو اضطرار الكثير من أنصارها وكوادرها منذ مطلع تسعينات القرن الماضي للحياة والإقامة في المنفى في العديد من البلدان الأوروبية مما منحهم فرصة التعرف بشكل مباشر من خلال الممارسة والتجربة العملية على الأنماط الحياتية والبنى الحداثية الاجتماعية السياسية والثقافية الغربية. هذا العامل ساهم في تقديري في حصول تحولات في فكر حركة النهضة وساعد على القيام بمراجعات نقدية وتفكيك الصور والتصورات المتجذرة حول الديمقراطية والحداثة والعلمانية وغيرها من المفاهيم، حيث إن موقف الرفض القطعي للعلمانية أو اللائكية من منظور إسلامي صار عمليا في هذا السياق تغلب عليه النسبية وينظر إليه من زوايا وتعريفات متمايزة ومتعددة.
فهم العلمانية
يتميز الفهم السائد والمهيمن لدى النخب التونسية للعلمانية بالتأثر البالغ والواضح بخصوصية التاريخ الفرنسي وبنية الخطاب الثقافي الفرنسي المتعلق بقضايا الدين واللائكية ويكاد يكون قابلا للاختزال في هذا النموذج. تتجلى خصوصية التأثير الثقافي المفاهيمي الفرنسي بوضوح في صياغة مفهوم اللائكية وموقف النخب التونسية منه من خلال الإقصاء الراديكالي للديني ومظاهر التدين من الفضاء العام . مقابل هذا التصور للعلمانية بصيغته اللائكية الفرنسية أمكن للكثير من إسلاميي النهضة الوقوف مباشرة على تصورات ونماذج متعددة ومختلفة فيما بينها للعلمانية من خلال التجربة الحياتية العملية والدراسية في بلدان المنفى الأوروبي في بريطانيا و ألمانيا و النمسا والبلدان الإسكندنافية وغيرها. هذا العامل مكن من مقاربة لقيم ومفاهيم الحداثة والديمقراطية والعلمانية في علاقتها بالإسلام كدين وثقافة بطريقة تحررت من التعاطي العصابي المنغلق الذي كان يغلب على مثل هذه النقاشات في الماضي.
بعد آخر منهجي في الفكر الديني لحركة النهضة ينبغي الالتفات إليه، وهو الأخذ بعين الاعتبار للسياق التاريخي عند شرح وتأويل ومقاربة النصوص الدينية من القرآن والحديث والتراث الفقهي والديني عموما، ويمكن إرجاع هذا البعد المنهجي إلى تراث وخطاب الإصلاح الديني المغاربي عموما والتونسي خصوصا و تاريخ حركة الإصلاح والتجديد منذ القرن التاسع عشر تحديدا. إن الاتجاه المقاصدي في التفسير والتأويل الذي يراعي المتغيرات السياقية والتاريخية للواقع ويأخذها بعين الاعتبار يقف على درجة التضاد والاختلاف مقابل قراءة للنصوص الدينية ذات صبغة سكونية يغلب عليها الجمود، حرفية ملتصقة بظاهر النص و تقليدية لا تتجاوز أقوال السلف تدعي مع ذلك أحقية إطلاقية ميتاتاريخية لهذا الفهم الخاص المتحقق للدين عموما.
جانب آخر من تاريخ حركة النهضة يسترعي الانتباه وينبغي الالتفات إليه ضمن هذا العرض وهو التغير الملاحظ بشكل جذري والتخلي عن موقفها تجاه المجتمع والشعب التونسي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي المتسم آنذاك بغلبة التوجه الدعوي التبشيري الذي يرمي إلى أسلمة للمجتمع وتغييره وفق تصورات وأفهام معينة لا تخلو من التشكيك في تدين التونسيين، أما الاستراتيجية الراهنة فهي تعتمد الاقتراب من المجتمع التونسي في مشاغله وهمومه عوض ممارسة التبشير عليه. إن التحدي الماثل في السياق التونسي الذي يواجه جميع الأطراف السياسية بما فيها الإسلاميين هو إدماج حركة النهضة في الحياة السياسية الديمقراطية وتكريس حالة من الوضع الطبيعي وليس الاستثنائي على المستوى السياسي. إن تجاوز هذا التحدي الخطير وتحقيق هذا الهدف يُعدّ سابقة أخرى في السياق التونسي والعربي عموما تضاف إلى سابقاتها وهي إسقاط الدكتاتور ونجاح تنظيم أول انتخابات حرة وديمقراطية. يعتبر نجاح هذه الخطوة مهما ومؤثرا جدا على مسار وصيرورة ثورة الحرية حيث أن تحولات وتغييرات بنيوية سيتوجب اتخاذها والبدء فيها، تقديم أفكار جديدة سيكون أمرا ضروريا وحيويا وقد بدأت نخبة جديدة سياسية ومثقفة بالبروز والتموقع ضمن السياق والمشهد الثقافي والسياسي الجديد في تونس.
تأثيرات العملية الديموقراطية
إن نجاح الديمقراطية في تونس كسابقة أولى يتعدى تأثيره المستقبلي حدود تونس ويتجاوزها إلى كامل العالم العربي. لقد كشفت كل من ثورة الحرية والانتخابات الديمقراطية الناجحة في تونس خطأ الرأي و وزيف الادعاء القائل أن العالم العربي والإسلامي غير قابل للديمقراطية ومعاد للحرية كما أسقطت النظريات والتصورات التي راجت لعقود والتي نظّرت لصراع الثقافات ونهاية التاريخ حيث أن التاريخ بدأ هنا يُخَط ويُصنع من جديد. إن ملامح تحولات بنيوية وتغييرات أساسية في الجهاز المفاهيمي يمكن رصدها في سياق الربيع العربي بينما لا يمكن رصد أي تحول أو تغيير في النظرة والتصور الغربي في السياق الإعلامي والسياسي والثقافي للعالم العربي الإسلامي بالرغم من أن هذا الأمر يعتبر منهجيا مطلوبا وضرورة ملحة حيث إن الممارسة النقدية الذاتية لهذه النظرة الغربية السائدة وأشكال الخطاب المهيمن والصور الخاطئة التي لعبت دورا مؤثرا سلبيا في الفهم والإدراك ينبغي طرحها والبدء فيها.
إن التعاطي مع ظاهرة الإسلام السياسي من خلال حركة النهضة مثلا وتصويرها بشكل سكوني يعبر عن خلل وخطأ في إدراك هذه الظاهرة التي تتسم واقعا بالديناميكية وينبغي تحليلها بشكل متوازن ودون تحامل. إنه من المطلوب في تقديري طرح صورة ونوعية حضور العالم العربي الإسلامي في الخطاب الغربي للتساؤل والإشكال والقيام بتفكيكها حيث أنه يبدو أن تداعيات وتأثيرات الربيع العربي لن تقف عند حدود أقطار العالم العربي فقط إذ إن مطالب الحرية والكرامة والاحترام والعدالة الاجتماعية يتطلع إليها كل الناس في كل العالم.
جمال الدين بن عبد الجليل
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011
جمال الدين بن عبد الجليل : أكاديمي مختص في الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي ومحاضر في الفلسفة الإسلامية في جامعة غوتة بفرانكفورت