حرب من أجل الغذاء .. هل سيهدد الجوع أمن العالم؟
١٥ أكتوبر ٢٠١١في القرن الثامن عشر وعلى خلفية ثورات الجياع التي شهدتها كل من باريس ولندن آنذاك، بنى القس والفيلسوف الإنجليزي روبرت مالثوس نظريته التي تقول بأن الموارد الطبيعية للكرة الأرضية لا تكفي سوى لإطعام عدد معين من الأشخاص، وإذ ازداد عدد سكان الأرض عن هذا الحد، فإن المجاعات والأوبئة والحروب ستكون كفيلة بتقليص عددهم إلى الحد المطلوب.
الجوع أساس للثورات
ثورات الجياع ليست بالظاهرة الحديثة، فهي معروفة منذ فجر التاريخ، ففي العام 57 قبل الميلاد كتب الخطيب والكاتب الروماني شيشرون عن الاحتجاجات التي قام بها مواطنون غاضبون في روما بسبب الارتفاع الكبير لأسعار الخبز. وفي السنوات التي أعقبت هذه الاحتجاجات تعرضت روما لثماني أزمات غذائية كبيرة دفعت بالقيصر إلى اتخاذ خطوات فورية، أهمها الاستيلاء على مخزون الحبوب في مصر وتسخيره لسد احتياجات سكان عاصمته. وبهذه الخطوة تمكن قياصرة روما من السيطرة على الاحتجاجات في قلب إمبراطوريتهم، وهو ما ضمن لهم الاستقرار السياسي.
ويقول الخبير الزراعي الألماني فولفغانغ هاينريش إن النخب الحاكمة في الدول النامية لا تزال تلجأ إلى طريقة مشابهة حتى يومنا هذا، مضيفاً أن هذه "الحكومات تميل إلى إرضاء سكان المدن فيها أطول فترة ممكنة، عن طريق تخفيض الأسعار بشكل كبير، ودعم المنتجات الغذائية، واستيراد القمح وغيرها. وهذا يمتص الكثير من موارد الدولة. لكنها تلجأ في المناطق الزراعية إلى قمع الاضطرابات هناك بالوسائل القمعية".
هذه الظاهرة تجلت لأول مرة بشكل عالمي في قرننا الحالي أثناء أزمة الغذاء العالمية التي تزامنت مع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008. ففي أفريقيا وأجزاء من آسيا ومنطقة جزر الكاريبي اندلعت انتفاضات للجياع أدت إلى زعزعة استقرار بعض حكومات هذه الدول. وفي بعض الحالات قامت بعض المجموعات باستغلال هذه الانتفاضات كسلاح في صراعها الداخلي على السلطة. وفي هذا السياق يقول مدير مركز بون للأبحاث التنموية في ألمانيا، يوآخيم فون براون، بأن المسوح التي قام بها المركز تشير إلى "أن العام 2008 شهد 50 حالة من الاضطرابات والاحتجاجات، قاد بعضها إلى تغييرات في الأنظمة الحاكمة. هذه تعتبر بالنسبة لنا تجربة جديدة". الأثر العميق الذي تركته هذه الاضطرابات دفعت بموضوع الغذاء إلى أعلم سلم الأولويات التي تناقشها محافل الأمم المتحدة وقمة الدول الصناعية العشرين.
الجوع شرارة للأزمات السياسية الداخلية
وعلى الرغم من هذه التفسيرات، إلا أن العلماء يجدون صعوبة في إثبات العلاقة بين نقص الموارد الطبيعية والصراعات المسلحة. لكنهم قادرون نظرياً على إثبات أن التنافس على الموارد الطبيعية في دولة ذات وضع سياسي هش يقود إلى نزاع مسلح لإنهاء هذا التنافس. ويشير شتيفين أنغينيندت من المعهد الألماني للسياسات الدولية والأمنية، الذي شارك في إعداد دراسة حول نقص المواد الخام وأثرها على اندلاع الصراعات المسلحة، إلى أن نقص الغذاء يعتبر واحداً من عدة عوامل تتسبب في اندلاع هذه الصراعات.
ويضيف أنغينيندت أن "انعدام العدالة في توزيع الموارد أو الحكم السيئ يجب أن يتوفرا لكي تتحول أزمة نقص الغذاء إلى أزمة اجتماعية تؤدي إلى مشكلة أمنية"، معتبراً أن ذلك يكفي لكي تتحول الاحتجاجات على ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى معاداة مفتوحة لنظام الحكم القائم، كما حصل في تونس مع نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
من جانبه يدلل الخبير الألماني فون براون على أن الربيع العربي شهد "ثورات جياع رمزية" شكلت الشرارة التي أدت إلى اندلاع ثورات ضد النظام في عدد من الدول العربية، مدفوعة بمزيج سياسي معقد تُعتبر أسعار المواد الغذائية فيه أحد الأسباب العديدة لعدم الرضا عن هذه الأنظمة. أما بالنسبة لثورات الجياع، فيؤكد فون براون أنها تندلع بشكل أكثر في دول لا تتمتع بنفس متوسط الدخل المرتفع الموجود في تونس، مثل أثيوبيا، وأنها بدأت تتخذ أهمية كبيرة هناك، خاصة وأن دستور البلاد ينصّ على أن جميع الأراضي ملك للدولة، التي تقوم بتأجير مساحة واسعة منها لمستثمرين أجانب.
"خطف الأراضي" قد يحول الجوع إلى مصدر للعنف
هذا الوضع في أثيوبيا يؤدي إلى فقدان صغار المزارعين لمصدر قوتهم، بحسب فولفغانغ هاينريش، الذي أمضى وقتاً في تلك البلاد. ويتابع هاينريش بالقول إن "الحكومة الأثيوبية لم تقم باتخاذ الخطوات اللازمة للتعامل مع صغار المزارعين، الذين اضطروا لهجر مزارعهم بسبب منافسة المزارع الضخمة التي تستخدم تقنية عالية ويشرف عليها المستثمرون الأجانب. ويشير الخبير الزراعي الألماني إلى أن بعض أجزاء البلاد شهدت ما يمكن وصفه بانتفاضات الجياع.
وكما هو الحال في أثيوبيا، يعاني المواطنون في كينيا وأوغندا من تأجير الأراضي الزراعية وبيع مساحات كبيرة منها لشركات الاستثمار الزراعي الأجنبية. وتشير معلومات منظمة الإغاثة البريطانية "أوكسفام" إلى أن أكثر من 22 ألفاً و500 شخص في مقاطعتي موبينديه وكيبوغا فقدوا أراضيهم نتيجة بيعها إلى شركة "نيو فوريستس كومباني" الزراعية البريطانية. وكشف بعض هؤلاء المواطنين في مقابلات مع منظمة الإغاثة عن أن الحكومة قامت بطردهم من أراضيهم بالقوة ودون أي تعويضات.
وتؤكد الخبيرة الزراعية في "أوكسفام" ماريتا ويغرتاله أن الأمر في أوغندا يعتبر جزءاً من ظاهرة "خطف الأراضي" التي تمارسها شركات الاستثمار الأجنبية دون أي اعتبار لحقوق واحتياجات من كانوا يشتغلون بزراعة هذه الأراضي، ودون أي تعويض عن فقدانهم لمصدر رزقهم ومنازلهم. وهذا يؤدي بدوره إلى تصعيد في حالة عدم الرضا وتحول الضحايا إلى العنف.
الجوع والإرهاب .. علاقة حميمة
ويشير فولفغانغ هاينريش إلى أن هذا "المخزون" الهائل من الفقراء الغاضبين يشكل مصدراً هاماً تعتمد عليه المنظمات الإرهابية الإسلامية لتجنيد عناصرها، خاصة في منطقة القرن الأفريقي"، معتبراً أن إهمال المجتمع الدولي للنزاع في الصومال في العقدين الأخيرين ساهم في بناء هذه المجموعات علاقات وثيقة مع تنظيم القاعدة.
ويعتقد العلماء أن ضحايا الجوع لا يلجؤون إلى حمل السلاح إلا نادراً، لأنهم غالباً يقومون بالهرب بحثاً عن مصادر جديدة للغذاء: وفي القارة الأفريقية تقود عملية استقبال اللاجئين ودمجهم في المجتمع إلى تفاقم مشكلة التوزيع العادل للموارد الطبيعية، مما يقود بدوره إلى نشوء نزاعات جديدة يمكن لها أن تتطور إلى مرحلة الصراعات المسلحة. ويعتقد خبراء التنمية بأن سبب انتشار ظاهرة القرصنة في منطقة القرن الأفريقي هو الصيد الجائر قبالة السواحل الصومالية من قبل أساطيل الصيد الدولية.
لكن الوضع في تلك المنطقة قد يتخذ منعطفاً أخطر، حسب تحذيرات مفوض الاتحاد الأوروبي الخاص بالصومال، جورج مارك أندريه، الذي يعتبر أنه "من حسن الحظ أن القرصنة قبالة سواحل القرن الأفريقي لا ترتكز على قاعدة سياسية، ونأمل أن تظل مدفوعة بالحاجة المالية فقط، إذ لا يمكن تخيل تبعات تحول الرهائن الذين يحتجزهم القراصنة أثناء اختطاف السفن إلى رهائن يستخدمون لإجراء مقايضات سياسية، ولا يمكننا أن نتخيل أبعاد تفجير عناصر من القاعدة أو حركة الشباب الإسلامية الصومالية لناقلة نفط اختطفوها قبالة سواحل مومباسا (في كينيا)".
ورغم كل هذه السيناريوهات المتشائمة، يجمع الخبراء على أن اندلاع "حروب الغذاء" في المستقبل القريب أمر غير محتمل، إلا أن مدير مركز بون للأبحاث التنموية يوآخيم فون براون يرى بأن تفاقم مشكلة نقص الغذاء سيكون لها تبعات سياسية وأمنية متزايدة، ويضيف أن "الهجرة والصراعات على ملكية الأراضي ستتفاقم إلى درجة تهديد استقرار المناطق التي تندلع فيها والحكومات التي تشرف عليها. وبما أن العالم أصبح قرية صغيرة متشابكة، فإن هذه الصراعات ستتجلى في صورة تهديدات أمنية بالنسبة للعالم بأكمله".
دانييل شيشكيفيتز/ ياسر أبو معيلق
مراجعة: عبده جميل المخلافي