حرب بوتين في سوريا وارتدادتها الأمنية داخل روسيا
٨ أكتوبر ٢٠١٥من يستعمل وسائل النقل العامة في موسكو أو سانت بطرسبورغ وخاصة المترو لن تفوته ملاحظة رجال ونساء يرتدون ملابس الشرطة. ثلاثة على الأقل يسيرون معا داخل كل محطة من محطات مترو موسكو أو سانت بطرسبورغ المزدحمة. يراقبون آلاف الناس، بل الملايين ممن يستعملون مترو موسكو الشهير الذي يعود إلى العصر السوفيتي. بالإضافة إلى عدد أكبر من ذلك عند مدخل كل مترو. مستعدون دائما للمساعدة، لكنهم يفحصون غالبا أوراق شباب قوقازي المظهر. شعر أسود وبشرة تميل إلى السمرة وعيون كبيرة وجسد يميل إلى القصر منه إلى الطول. لكنهم لا يفحصون أوراق كل واحد من هؤلاء. الأمر يعتمد غالبا على مظهر الشخص نفسه وطبيعة الملابس التي يرتديها. فالأنيق يدل على أنه يسكن المدينة منذ مدة ويتمتع بوضع مادي جيد، بيد أن أغلبهم يكدحون ليلا ونهارا ولا وقت لديهم سوى للنوم، لا وقت للعناية بالمظهر.
يأتي أغلب هؤلاء الشباب من بلدان آسيا الوسطى الإسلامية. طاجيكستان، أوزبكستان، قيرغيزستان وتركمانستان. يقدر البعض عددهم بأكثر من مليوني شخص في موسكو وحدها. يهربون من ضيق العيش في بلدانهم ويبحثون عن فرص للعمل في عاصمة روسيا، التي كانت تحكم أبائهم وأجدادهم لأكثر من مئة عام. فحص وثائقهم الشخصية من قبل السلطات له أسبابه، فالمخاطر التي يمكن أن تواجه روسيا داخليا تتمثل بأعمال متوقعة من جماعات تقاتل في سوريا وربما من أطراف أخرى في روسيا نفسها، حسبما يحذر مراقبون.
تحذير أمني
مخاوف الأجهزة الأمنية الروسية لها دوافعها إذن. فقد كانت محطات مترو موسكو الهدف المفضل لأعمال إرهابية في الأعوام 2002 و2004 وآخرها في 2010. كان منفذوها رجال ونساء انفصاليون من جمهورية الشيشان التابعة للاتحاد الروسي، ينتمون إلى ما يسمى بإمارة القوقاز الإسلامية. أفرزتهم حروب الشيشان في منتصف ونهاية تسعينات القرن الماضي. كما أن عمليات إرهابية أخرى حدثت في جمهوريات الشيشان وداغستان الإسلاميتين، بالإضافة إلى مناطق أخرى في روسيا. فنتائج حرب الشيشان تظهر بين الحين والآخر.
الخبراء يحذرون من خطر حدوث عمليات إرهابية تطال روسيا نتيجة التدخل في سوريا، التي تعج فيها الفوضى. صحيفة موسكو تايمز الروسية نقلت عن خبير قائد وحدة "ألفا" الخاصة لمكافحة الإرهاب سيرغي غونجاروف قوله "هناك إسلاميون، جهاديون، مسلمون متطرفون، سيحاولون الرد على الخطوات الروسية في سوريا".
وأحد أهم أسباب رفع درجة تحذير الأجهزة الأمنية هو أن حوالي 2400 رجل من جمهوريات الشيشان وداغستان يقاتلون في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية" بسوريا. ولعل تواجدهم في سوريا وابتعادهم عن أرضهم يشكل سببا في عدم حدوث عمليات إرهابية على الأراضي الروسية منذ ما يقارب من 18 شهرا، حسب الصحيفة. بيد أن للأمر جانب آخر أشار إليه الرئيس الروسي بوتين خلال خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي استبق فيه العمليات الروسية في سوريا. بوتين قال "هناك روس يدربون ويتدربون في "الدولة الإسلامية"، ونحن لن نسمح لقاطعي الرؤوس هؤلاء بالعودة إلى بلادهم". وهي إشارة واضحة لأحد أهداف العمليات الروسية في سوريا. بوتين يحاول القضاء على هؤلاء المقاتلين في سوريا نفسها، أمر بحاجة لأكثر من قصف بالطائرات فقط.
خبير شؤون الإرهاب والاستخبارات جاسم محمد تحدث عن جانب استخباري روسي سبق العمليات الروسية العسكرية على الأراضي السورية. وقال في حديث مع DWعربية "موسكو بعثت بعد دخول المقاتلين الشيشان إلى جانب "الدولة الإسلامية" في سوريا والعراق، بمجموعات مدربة بشكل خاص وبالتنسيق مع نظام الأسد لاصطياد وتعقب القيادات في إمارة القوقاز". ثم يضيف بالقول" الخطوة الثانية الاستخبارية هي تعقب المقاتلين عند الحدود التركية السورية، فلروسيا تواجد مهم في تركيا"، حسب قول الخبير.
ويستبعد الخبير الأمني جاسم محمد أن تأتي التهديدات للأمن الداخل الروسي من هذه الجماعات المقاتلة في سوريا، فهي منشغلة في القتال هناك. ويستبعد أيضا عودة أغلبهم لأسباب ذكرها الخبير آنفا. لكنه يشير إلى أن الخطر الممكن ربما يأتي من داخل روسيا نفسها، جماعات فاعلة هناك أو ربما كرد فعل متعاطف مع الجماعات الإسلامية في سوريا.
بيد أن رئيس المركز الثقافي العربي في مدينة سانت بطرسبورغ الدكتور مسلّم شعيطو قال في حديث له مع DWعربية "إن روسيا لم تعاني ولا تعاني مع المكون الأساسي لمجتمعها وهو الإسلام. مكونات المجتمع الروسي من مسلمين ويهود ومسيحيين وحتى بوذيين تعيش معا بعلاقات وطيدة"، ثم يصف المقاتلين الشيشانين بأنهم "مقاتلون إرهابيون مُولوا من بعض الدول العربية، وعبئوا ايدولوجيا من الثقافة التركية التي لعبت دورا سيئا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة"، حسب قوله.
من يزور روسيا يلاحظ التعايش السلمي بين المسلمين والديانات الأخرى. ويحاول الكرملين بين الحين والآخر الإشارة إلى دعم الدولة للمسلمين الذين يشكلون 20 بالمائة من سكان روسيا. وقبل أيام افتتح الرئيس الروسي بوتين بصحبة الرئيس التركي اردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس، مسجد موسكو الكبير. أما الرئيس الشيشاني رمضان قديروف المقرب من الكرملين فيفتخر بين الحين والآخر بوجود شعرة النبي محمد في الشيشان.
الجوار الخطر
الخطر الثاني الذي يهدد الأراضي الروسية يمكن أن يأتي من دول آسيا الوسطى التي تربطها مع موسكو علاقات تاريخية قوية، وتتشابه معها في طبيعة النظام السياسي إلى حد ما. فكل هذه الدول يحكمها نفس الأشخاص منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وتعاني من مشاكل اقتصادية وضعف في البنية التحتية. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن حوالي خمسة آلاف رجل رحلوا إلى تركيا بحجة العمل ومن هناك انتقلوا إلى سوريا للقتال في صفوف "الدولة الإسلامية". وتقول الصحيفة إن معدل الدخل الشهري للفرد في هذه الدول يصل إلى 170 دولارا، بينما يتقاضى المقاتلون في صفوف "داعش" حوالي 3 آلاف دولار شهريا، حسب الصحيفة. وتحاول موسكو الحفاظ على علاقاتها مع هذه الدول المجاورة لأفغانستان ودعمها عسكريا واقتصاديا للحفاظ على حديقتها الخلفية في هذه الدول. وتفتح المجال للكثير من مواطني هذه الدول للعمل على أراضيها.
لكن قبل مدة نشر قائد الوحدات الخاصة الطاجيكية نصرت نزاروف شريط فيديو يعلن فيه انضمامه لتنظيم "الدولة الإسلامية" وتهديده للسلطة الطاجيكية. أما في أوزبكستان التي زرتها قبل شهرين فيلاحظ المرء الإجراءات الأمنية المشددة في محطات القطارات ومحطات المترو. وحده، حملُ كاميرا يثير الشبهة في العاصمة الاوزبكية طشقند. ولا أعلم عدد المرات التي فتشني فيها رجال الأمن قبيل دخولي محطات القطارات أو المترو، التي يمنع فيها منعا باتا التصوير.
قبل وصولي إلى طشقند بالطائرة من روسيا وفي رحلتي من مدينة سمارة الواقعة قرب نهر الفولغا مع سائق التاكسي أخذني شاب عشريني أوزبكي إلى المطار. يعمل الشاب بشكل غير قانوني. أحرار، اسم الشاب الملتحي لحية مشذبة جيدا. اسم يليق بفتاة. لكن الأسماء تتداخل في مجتمعات آسيا الوسطى. قدري أن يقلني للمطار اوزبكي وأنا متوجه لاوزبكستان.
قبل صعودي السيارة، سمعت صوتا يخرج منها يصيح بطريقة مألوفة. وبالفعل، كان المذياع ينقل خطبة لشيخ أو داعية تتطاير منها الحماسة مع كل كلمة يطلقها. اللغة التي كان يصرخ بها الخطيب، خليط من فارسية، مع تركية أحيانا. لغة تحوي كل لغات آسيا الوسطى، وكلمات عربية حين يستشهد ببعض الآيات. أحيانا من الوقع الخفيف، حين يدور الأمر حول الدعوة بالحسنى، وأحيانا ثقيلة الوزن حين يسبقها بالجهاد والحرب في سوريا.
فعلمت أن الخطيب يتحدث عن الجهاد. حاولت جس نبض أحرار، حين توقفنا في تقاطع طرق تداخل معه الترام مع سيارات تسبقه. مرت فتاة جميلة جداً أمامنا، حاولت معرفة ما بداخله. "إنها جميلة، كل الفتيات جميلات هنا". قلت له، وجاءت الإجابة سريعة منه؛ لسن جميلات، المسلمات هن الجميلات. هذا شيتان (شيطان).
دعوات، دعوات .. صرخ الخطيب مرة أخرى وأنا أبحث عن طريقة لتمييز "الشياطين" في الطريق الذي لم يترك أحرار فيه قاعدة سير إلا وكسرها. فيما يستمع لدعوات الخطيب بالحسنى والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله واحترام القانون.
شعر أحرار أنني اسأل كثيرا، ولاحظ أنني أصور كثيراً بكاميراتي طيلة الطريق، سألته مرة أخرى عن أسمه لأني نسيته، فغير من موجة الراديو إلى إذاعة غناء روسية. ثم أجابني : "أسرار".