ثمانون عاماً على ميلاد مارتين فالزر - "مؤرخ الحياة اليومية" في ألمانيا
١٤ أبريل ٢٠٠٧يطلق نقاد الأدب على مارتين فالزر "بلزاك بحيرة بودن" - هذه البحيرة التي ولد الروائي الكبير على ضفافها وحيث مازال يعيش. ومن الممكن أن نطلق على فالزر أيضاً "محفوظ ألمانيا"، فمثل الروائي المصري نجيب محفوظ اهتم فالزر في رواياته بتصوير حياة البورجوازيين الصغار الذين لا يستطيعون التحرر من قيود المجتمع وعاداته. ومثلما أرّخ محفوظ للقاهرة في "الثلاثية" و"زقاق المدق" وغيرها من الأعمال، تعتبر أعمال فالزر "تأريخاً للتطور النفسي لجمهورية ألمانيا"، على حد قول الرئيس هورست كولر في الخطاب الذي بعث به إلى الأديب الكبير بمناسبة بلوغه الثمانين.
تكريم مبكر لـ"محفوظ ألمانيا"
ليس هناك جائزة أدبية مهمة لم يحصل عليها هذا الروائي (المولود في 24/3/1927). وخلافاً لمعظم زملائه الذين يكرمون مع تقدمهم في العمر، حظي فالزر بالتكريم وهو بعد في سنوات الشباب، وعندما وصل مشارف الخمسين كان قد نال أهم الجوائز الأدبية في ألمانيا، من جائزة هرمان هسه مروراً بجائزة شيلر ووصولاً إلى جائزة بوشنر. بدأ فالزر محاولاته في الكتابة بنظم الشعر في صباه، لكنه أدرك سريعا أنه ليس بالشاعر. اتجه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى دراسة الأدب، وحاز عام 1952 على درجة الدكتوراه بأطروحة تقدم بها عن الشكل القصصى عند فرانتس كافكا - هذا الأديب الذي كان تأثيره طاغياً عليه في البداية، حتى أن زملاءه أعضاء "جماعة 47 الأدبية" المشهورة سخروا منه عندما قرأ أمامهم قصصه المبكرة، ونصحوه أن يبحث عن أسلوبه المميز. وبالفعل وجد فالزر أسلوبه في تصوير حياة الناس العاديين في ألمانيا، ولذلك أطلق عليه النقاد لقب "مؤرخ الحياة اليومية". ومن رواياته التي تؤكد صحة هذا الوصف: "زيجات في فيلبسبورغ" (1957)، و"منتصف الوقت" (1960)، و"الجواد الهارب" (1978) التي اعتبرها معظم النقاد وقت صدورها "لؤلؤة النثر الألماني". وقد تحولت الرواية إلى فيلم سيعرض في دور السينما في الخريف المقبل. وبروايته "دفاع عن الطفولة" (1991) كان فالزر أول من تناول إعادة توحيد ألمانيا روائياً. أما روايته "النبع الفوار" (1998) فقد احتفى بها عديد من النقاد كدرة بين أعماله، وفيها يتناول فترة صباه التي قضاها في مسقط رأسه "فاسربورغ" أيام النازية، وعنها قال فالزر: "الرواية التي تخلو من السيرة الذاتية ليست رواية، وإنما بحث اجتماعي."
خلال خمسة عقود أبدع فالزر مجموعة أعمال تملأ اثني عشر مجلداً، تتوزع بين تمثيليات إذاعية وقصص وروايات ومسرحيات ومقالات. وبمثل ضخامة أعماله، كان الجدل حوله كبيراً، أديباً وكاتباً سياسياً. في هذه النقطة يشبه فالزر زميله غونتر غراس، الذي يحتفل هذا العام أيضا بعيد ميلاده الثمانين.
غراس وفالزر أهم أديبين في ألمانيا
غراس وفالزر - اثنان من جيل الحرب العالمية الثانية، جُندا في شبابهما المبكر وخدما في الجيش النازي، وانتهت الحرب وهما في الأسر الأمريكي. غراس، حامل نوبل وصاحب "الطبل الصفيح"، حقق شهرة عالمية بثلاثيته عن دانتسيغ، ثم فجّر جدلاً واسعاً بسيرته التي صدرت حديثاً بعنوان "عند تقشير البصل"، عندما اعترف بأنه التحق متطوعاً في فرقة "الإس إس" النازية خلال الحرب العالمية الثانية. أما مارتين فالزر فكثيراً ما أثار موجات واسعة من النقد والجدل، مع اختلاف الأسباب بالطبع. لقد تميز هذا الروائي طوال حياته بالصراحة والمباشرة في أحاديثه، وكثيراً ما أدلى بتصريحات سياسية تبتعد عن طقوس ما يُسمى بـ"الصوابية السياسية"political correctness ، فكان يجني حيناً نقداً صائباً، وأحياناً هجوماً وتجريحاً.
…..وأكثرهما إثارة للجدل
وهنا ينبغي الإشارة إلى أهم مثاليين لإلتزام فالزر بنهجه النقدي وهما خطابه في كنسية القديس بولس في فرانكفورت عام 1998 بمناسبة فوزه بجائزة السلام التي يمنحها اتحاد الناشرين الألمان، ثم روايته التي صدرت بعدها بسنوات قليلة بعنوان "وفاة ناقد" والتي تناول فيها سلطة النقد والإعلام في ألمانيا، وسخر من نقاده، لاسيما الناقد الأشهر مارسيل رايش رانتسيكي. ورأى البعض أن الرواية تشبه حكماً بالإعدام على هذا الناقد اليهودي الكبير، وأنها تحتوي على كل النعوت النمطية التي كانت توجه لليهود أيام النازية، مثل الطفيلية والتعطش إلى السلطة، والنهم إلى الجنس. غير أن الجدل الأكبر اشتعل عندما ألقى كلمةً بمناسبة فوزه بجائزة السلام عام 1998. في تلك الكلمة تناول فالزر موضوع تعامل الألمان مع ماضيهم، وخاصة قضية "العبء التاريخي" الذي يثقل كاهلهم من جراء جرائم النازية، وهي القضية الأساسية التي شغلت المجتمع والأدب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. رأى فالزر أن التناول المستمر لموضوع الهولوكوست واستخدامه – على حد قوله – كـ"هرواة أخلاقية" و "أداة تخويف" قد يأتيان بنتائج عكسية في النهاية.
كما اساء البعض فهم خطابه معتقدين أنه يدعو إلى إشاحة النظر عن هذه الجرائم، وأنه يستخدم الحجج نفسها التي يتشدق بها أنصار اليمين المتطرف، ولذلك واجه فالزر اتهامات قاسية، واشتعل جدل فكري لعله لم يهدأ حتى اليوم. فيما بعد عقّب فالزر على جدل "خطاب السلام" قائلا: "لو كنت قد تشدقت في الكنيسة ببعض الجمل المنتقدة في وداعة للمجتمع، لكنت قد أصبحت ذلك المثقف الذي يتسابقون لدعوته يوم الأحد كي يلقي عظة بدلا من القس." لكن فالزر يفضل الصدام والمواجهة عن المصالحة الزائفة، ويفضّل أن يكون الكاتب الذي يشير إلى الجرح عن أن يكون بوقاً لعبارات مستهلكة. ورغم بلوغ الروائي الثمانين فإنه لم يتوقف عن الكتابة بعد. وقد شهد معرض لايبتسغ للكتاب مؤخراً صدور أحدث أعماله، وهو الديوان الشعري "الحيوان المسلوخ" الذي زينته ابنته أليسا بالرسوم. كما أنه يُعد لنشر الجزء الثاني من مذكراته. وفي العام المقبل سيطلع محبو أدبه على رواية جديدة لـ"مؤرخ الحياة اليومية" في ألمانيا.
سمير جريس