ثلاثة شبان عرب في ألمانيا والثورات في بلدانهم
١٧ أكتوبر ٢٠١١عندما قرروا السفر إلى ألمانيا، قبل سنوات، كانوا مدفوعين برغبة في الحصول على فرصة أفضل لإتمام تعليمهم في الجامعات الألمانية، التي تتمتع بسمعة عالمية جيدة. ولكن في نفس الوقت كان يحزنهم حال بلدانهم العربية. ربما في ذلك الوقت، لم يكن يخطر في بال أحد منهم أن الأمور ستتغير في يوم ما وأن الموازين ستنقلب، فيطاح برؤوس الفساد التي تدير وتحكم في البلدان العربية. البداية كانت من تونس لتتبعها مصر ثم ليبيا واليمن وسوريا، ومن يدري من التالي.
من تونس جاء الياسمين
عندما احتشد شباب تونس للإطاحة بنظام زين العابدين بن علي كان وليد بادة (31 عاما) هنا في مدينة بون، العاصمة السابقة لألمانيا، يتابع ما يجري وهو غير مصدق لما يرى ويسمع. ورغم المسافات إلا أن وليد تابع "الثورة متابعة قريبة ولم يكن يشعر بالبعد، بل وكأنه في تونس"، لأنه كان يتابع كل التفاصيل اليومية من خلال الاتصال بعائلته وأصدقائه، حتى أولئك الذين لم يتصل بهم منذ فترة طويلة. كان يبقى لساعات طويلة ليتابع ما الذي يحدث عبر الفيسبوك وغيره من مواقع الإنترنت، وكان على اتصال بالصوت والصورة مع عائلته عبر "سكايب".
يصمت وليد لبرهة، ويضيف متنهدا:"عبر سكايب، كنت أسمع صوت الرصاص الذي يطلق في الشارع، كنت أسمع بكاء أمي وأختي وأحس بخوفهما. كنت أرى دموع زوجتي عبر الكاميرا وهي خائفة. كنت أسمع كيف تطلب أمي من أخي أن يذهب لحراسة الشارع الذي يسكنون فيه مع بقية الشباب، فيما يعرف بلجان الأحياء."
كانت أيام 14، 15، 16، 17 كانون ثاني/ يناير استثنائية في حياة وليد، لم يعرف فيها طعم النوم إلا لمدة ساعة أو ساعتين في كل ليلة. رغم تلك الحرقة آنذاك، إلا أن وليد كان واثقا من انتصار ثورة شباب تونس، وهو الذي كان يمني النفس بالمشاركة فيها
من هناك، كان يتمنى لو أنه كان في تونس. إلا أنه لم يرغب أن يبقى من غير مشاركة ولو بسيطة "مساهمتي كانت عبر الفيسبوك، كنت أكتب على حائطي بعض المقالات البسيطة، وأمرر الفيديوهات الخاصة بالثورة لكي يراها الناس. كان دعما معنويا بقدر استطاعتي."
وإن كانت ظروف الغربة قد منعت وليد من تقديم مساهمة كبيرة في الثورة التونسية، إلا أن الدور الذي يقوم به حاليا ليس بالقليل، فقد ساهم مع مجموعة من التونسيين المقيمين في ألمانيا في تأسيس جمعية مسجلة تحمل اسم "جمعية الكفاءات التونسية في ألمانيا". و قام وليد ورفاقه في هذه الجمعية بعدة نشاطات، كمايقول: "أسسنا موقعا على الانترنت لتبسيط العملية الانتخابية في تونس، وذلك بطرح أسئلة على الأحزاب التي تأسست مؤخرا ورؤيتها لتونس المستقبل، ثم يجيب الجمهور على الأسئلة، وهكذا يستطيع كل ناخب أن يعرف بسهولة الحزب القريب من ميوله وآماله، عند تشابه الإجابات بين الناخب وبين الحزب". كما يقدم أعضاء الجمعية، وهم أكاديميون في مختلف التخصصات العلمية، استشارات مجانية للشركات والأفراد في تونس سواء في مجال التقنيات والمصانع أو في الاقتصاد وغير ذلك من التخصصات.
وليد الذي ولد وقضى فترة شبابه الأول في تونس ودرس فيها العلوم التجارية، جاء إلى ألمانيا قبل ستة أعوام. وهو يحضر الآن رسالة الدكتوراه في الاقتصاد في جامعة بون، ويأمل في أن يعود إلى وطنه يوما ما، ليرى تونس التي طالما حلم بها، فيقول: " أتطلع لتونس جميلة نظيفة قوية في كل المجالات: سياسيا واقتصاديا وثقافيا، يسودها العدل ويحكمها قضاء مستقل، ويتمتع فيها الناس بحريتهم، ويستطيع المرء أن يمارس فيها شعائر دينه بحرية ودون مشاكل." ويرى وليد أن هذه الأمور إذا تحققت ستشجع المهاجرين على العودة إلى الوطن، وتقديم خبراتهم لبنائه.
"ليست ثورة 25 يناير، وإنما 2011"
بعد تونس وياسمينها وصل قطار التغيير إلى مصر وأحداثها التي مازالت مستمرة حتى الآن. أمير طه، المقيم في مدينة توبنغن لدراسة الماجستير في الأدب المقارن، كان مشغولا مطلع عام 2011 بالبحث في رسالة الماجستير، ولكنه نسي الدراسة والأبحاث، عندما رأى الناس تتدفق إلى شوارع القاهرة في 25 كانون الثاني/ يناير، وتوقفت الحياة عنده وهو يراقب مواقع الانترنت وصفحات الفيسبوك، ويتنقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى. يروي أمير كيف أنه عندما رأى تلك الأعداد الهائلة في ميدان التحرير يوم 28 يناير، "فلم أعد أعرف أي مشاعر بدأت تخالجني؛ فرح شديد وفخر بأبناء بلدي، وبنفس الوقت خوف عليهم. كنت أضحك من كل قلبي، وبنفس الوقت تنتابني نوبات بكاء هيستيري، لأنني لم أعد أعرف كيف أعبر عن فرحتي آنذاك."
أمير المقيم في ألمانيا منذ ثمانية أعوام، عاد من إجازة قضاها في مصر قبل أسابيع قليلة من انطلاقة ثورة 25 يناير في مصر، إلا أنه كان يرغب في العودة إلى مصر والمشاركة في الاحتجاجات والتظاهرات، ولكن شركات الطيران كلها ألغت رحلاتها من ألمانيا إلى مصر، ولم يستطع أن يزور مصر إلا في نهاية شباط/ فبراير.
إلا أن أمير لم يستسلم وأراد أن يكون له دور ولو رمزي في الحراك الشعبي، ولو حتى من المغترب، فنظم تظاهرة، مع بعض الطلبة المصريين والعرب في مدينة توبنغن، "لكي نعبر عن تضامننا مع الشباب الثائر في مصر" كما يقول أمير، ويضيف: "بدأت أكتب رسائل عن الأوضاع في مصر لمنظمة العفو الدولية ولبعض السياسيين المحليين في توبنغن. أردت أن يكون لي دور في نصرة الثورة"، التي يرفض أمير أن يسميها بثورة 25 يناير، وإنما ثورة 2011، لأن ما جرى في يناير كان فعلا ثوريا، ولم يكن ثورة، برأيه. كما يصر أمير على أن هذا الفعل الثوري مستمر، لأن " عناصر النظام السابق مازالت متسكة بالسلطة، فالمجلس العسكري هو جزء من نظام مبارك." والأمور لم تتغير كثيرا، برأي أمير، "فالمحاكمات العسكرية للمدنين مازالت مستمرة. وما حصل مؤخرا وسقوط الضحايا في ماسبيرو آلمني كثيرا، ولكني أراه نتيجة طبيعية لبقاء عناصر النظام السابق في الحكم."
ورغم ذلك، إلا أن أمير متفائل، "لأن هناك توجها نحو الديمقراطية، فأصبح هناك انتخابات تجري على مستوى النقابات ومستوى الجامعات". إلا أن الثورة تحتاج في نظره إلى وقت: "أولا لتغيير الحكم العسكري وثانيا لكي يستطيع المصريون تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي وبناء البلد بشكل أفضل.
ولا ينسى أمير أن يبدي تعاطفه وتضامنه مع الشعب في ثلاثة بلدان عربية أخرى، وهي اليمن وسوريا والبحرين، ويركز على البحرين، "لأن الكثيرين ينسون البحرين، فالشعب في البحرين عانى كثيرا وسقط له قتلى وجرحى بالمئات".
"في سوريا: الثورة مستمرة"
ثالث الذين التقينا بهم كان عبد الرحمن شيخ عبيد، الذي كان مشغولا مع بعض زملائه في تنظيم معرض صغير حول الثورة السورية، في أحد أركان معرض فرانكفورت العالمي للكتاب. وحاولنا أن نعرف ما يقوم به عبد الرحمن (36 عاما)، فأجابنا: "الآن، نقوم يومي (15، 16 تشرين أول/ أكتوبر) بالمشاركة في معرض فرانكفورت للكتاب، بعد أن أسسنا جمعية مسجلة في ألمانيا لدعم الثورة السورية، ودعم الناس هناك، سواء المتضررين الذين يعيشون في سوريا، أو دعم اللاجئين في الخارج".
عبد الرحمن كان في زيارة لسوريا، قبل بداية الاحتجاجات بعشرة أيام، وعندما كان هناك، كان يرغب في أن تنطلق الثورة، كما يقول: "كنت متأكدا من أن الشعب سيثور قريبا. وقد حاولت أن أحرض أصدقائي وأقاربي على الثورة، لأن الفرصة تاريخية للخلاص من هذا النظام. حاولت أن أذكّر الناس بمسؤولياتهم تجاه المعتقلين والمضطهدين من قبل النظام، مثل طل الملوحي، التي كانت القصة التي لفقت لها أحد الأسباب التي سرعت في اشتعال الثورة".
وأثناء حديثنا مع عبد الرحمن، تذكر اليوم الذي انطلقت فيه أولى المظاهرات في سوريا (15 آذار/ مارس): "في اليوم الأول الذي بدأت فيه الثورة، عندما خرجت مظاهرة الحميدية، كان مخططا أن ألقي محاضرة هامة في أحد المؤتمرات العلمية. وقبل أن أدخل القاعة بدقائق قرأت خبر خروج المظاهرة، ثم دخلت، وعندها لم أستطع أن أحبس دموعي، ورغم أنني كنت قد أعددت نفسي بشكل جيد للمحاضرة، لم أستطع أن أتكلم بأي كلمة، فقال لي البروفيسور: "تستطيع التكلم بالإنجليزية، إذا كان ذلك أسهل لك". فقلت له: "وأنا أكفكف دموعي، اليوم لا أستطيع أن أتكلم إلا بالعربية."
وبعد أن اندلعت شرارة الاحتجاجات وتوسعت، كان "لابد من التحرك هنا في ألمانيا، فقمنا بتنظيم مظاهرات احتجاجية في بروكسل وبرلين وفي مدن أخرى". وأصبح عبد الرحمن يساهم بقوة في تنظيم الأمور مع مجموعة من السوريين. ويذكر لنا أنهم كانوا يصورون الاحتجاجات ويضعون الفيديوهات على الانترنت، "حتى يرى الناس في سوريا بأننا معهم. كنا نحاول أن نوضح للناس حقيقة الأمور، وحقيقة النظام وسعيه لافتعال المشاكل بين القوميات وبين الطوائف الدينية الموجودة في سوريا".
نشاط عبد الرحمن لم يقتصر على تلك التظاهرات بل كان يساهم بفعالية عبر الفيسبوك، وذلك بأن "يلاحق كل الدخلاء على صفحة الثورة السورية في الفيسبوك، الذين يحاولون تشويه صورة الثورة ببث الأحقاد الطائفية أو يهدفون إلى تحويل الثورة عن وجهتها السلمية". ويتابع عبد الرحمن لنا شارحا: "كنت أبقى أمام حاسوبي لفترات طويلة، أخذت كل فترات الإجازة المسموحة لي سنويا في فترة بداية الثورة، لأن أخطر مرحلة هي مرحلة البداية، وإذا انتصر النظام إعلاميا فقد ماتت الثورة". وعند دخول قوات النظام إلى المدن السورية وسقوط ضحايا، كان يتصل بالمحطات التلفزيونية ليخبرهم عما جرى، "لأن نشر تلك الأنباء، قد يردع النظام عن قتل مزيد من الناس".
إلا أن كل هذا النشاط كان على حساب عمله ودراسته وأسرته المؤلفة من زوجته وبناته الثلاث، والتي كن ينمن قبل أن يعود إلى البيت، ويخرج هو صباحا قبل أن يستيقظن، فتمضي أيام دون أن يرينه، حتى أن إحدى بناته (3 أعوام) طلبت من جدتها في سوريا: "قولي لبابا يجي لعندنا"، معتقدة أن أبيها في سوريا.
كل هذه الجهود، التي لم يكن فيها عبد الرحمن وحيدا وإنما شاركته فيها زوجته وأصدقاء سوريون آخرون، هي من أجل تحقيق أمانيهم بأن يروا سوريا التي طالموا حلموا بها "سوريا التي تسود فيها العدالة للجميع، وأن يكون التعبير عن الرأي فيها متاحا للجميع دون خوف أو وجل، وأن تحدد الانتخابات الحرة شكل الحكومة فيها".كما يقول عبد الرحمن.
فلاح الياس
مراجعة: منى صالح