تونسيتان تحاولان إصلاح ما أفسده "هجوم العامري" في برلين
٢٤ ديسمبر ٢٠١٨"أعيش في برلين منذ ما يزيد عن أربعين عاما ومنذ أكثر من عقدين من الزمن أبيع المنتوجات الحرفية في أسواق عيد الميلاد البرلينية "، هكذا بدأت أم السعد، وهي امرأة تونسية، الحديث مع DW عربية، وهي مبتسمة. لقد كانت جالسة داخل "كشك"، وهو عبارة عن دكان من الخشب، تعرض فيه منتوجات تونسية تقليدية، منصوبا في سوق عيد الميلاد في ساحة "برايتشايتبلاتس" في قلب برلين.
"دعاية" للمنتجات اليدوية التونسية
بجانب أم السعد كانت تقف رفيقتها حميدة الجلاصي، وهي سيدة خمسينية، انشغلت بحوار مع زبونة أبدت اهتماماً بشراء إحدى المنتوجات المعروضة في الكشك. وتقول أم السعد، أصيلة مدينة القيروان، وقد بدا عليها الحنين إلى الوطن: "كل ما ترونه من منتوجات داخل الدكان هي صناعة يدوية تونسية بذل فيها صانعوها عناية فائقة ليحولوها إلى تحف فنية."
الإقبال على منتجات الخشب والعطور خصوصا كبير، ويعود على المرأتين التونيستين بأرباح معتبرة. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث إذ بأم السعد تلقي بابتسامة إلى سيدة قد انبهرت بـ"مهراس" خشبي صغير، أخذت تقلبه بيديها وكأنها قد وجدت له مكانا في إحدى رفوف مطبخها.
في تلك الأثناء شرعت السيدة حميدة، رفيقة أم السعد، تثمن وتصف المهراس والوظيفة التي يضطلع بها في المطبخ التونسي والشرقي، ثم مضت تقص عليها الطريقة المثلى لصيانة الخشب حتى يحافظ على رونقه وجماله.
أسلحة رشاشة تتجول في عيد الميلاد!
الساحة التي يوجد بها الكشك شهدت في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016 هجوما بشاحنة قادها التونسي أنيس العامري (24 عاماً)، أسفر عن مقتل 12 وجرح 55 شخصا من زوار السوق، حسب السلطات الألمانية، قبل أن تقتله الشرطة الإيطالية في "سيستو سان جيوفاني" بشمال إيطاليا بعدها بأيام.
وتقول أم السعد إن "الإجراءات الأمنية باتت شديدة منذ هجوم العامري قبل سنتين على عكس السنوات التي سبقتها". ورغم ذلك لم تواجه المرأة التونسية أي عراقيل من قبل إدارة الحي بشأن تسجيل الكشك وتقول "كانت الإجراءات روتينية" معتادة.
وبينما كنا نتحدث عن الإجراءات الأمنية والحواجز الأسمنتية، التي وضعت على مداخل السوق من كل الجهات، إذ بثلاثة من رجال الشرطة يمرون بالقرب منَّا، وفي هذه الاثناء حدَّقت المرأة التونسية فيَّ، وهي تشير نحوهم، وقالت والحسرة تبدو على محياها: "كلما أرى رجال الشرطة بأسلحتهم يجوبون السوق طولاً وعرضاً أتذكر العملية الإرهابية، التي قام بها الإرهابي ابن وطني أنيس العامري."
وترى أم السعد وكذا حميدة في تواجد الأمن حماية للجميع في هذا الفضاء المكتظ بالأكشاك والأعداد الغفيرة من الزوار، ثم تمضي قائلة إن رجال الشرطة كانوا في السابق يتجولون في السوق بدون أسلحة على عكس ما نراه الآن، ولقد أضحى رجال الشرطة يحملون رشاشات على أكتافهم.
"العامري وصمة ونتذكره تلقائيا في عيد الميلاد"
كما علمنا في حديثنا مع المرأة التونسية أنها لم تشهد قط أي إزعاج من قبل رجال الأمن. وعلى سؤالنا هل أن الزبائن الألمان يخوضون غمار الحديث حول أنيس العامري، أصيل منطقتها في القيروان، أجابتنا بالنفي ثم استرسلت تقول: "الحمد لله لم يعد هذا الموضوع كما كان الحال عليه سابقا."
تقول أم السعد لـDW عربية: "كنا نواجه تساؤلات محرجة من قبل بعض الزبائن والتجار المجاورين لنا. أمَّا اليوم فيدور الحديث حول مصدر البضاعة وطريقة إنتاجها وصيانتها وبعض الأسئلة حول أحوال البلاد التونسية عقب ثورتها"، ثم طأطأت المرأة التونسية رأسها قائلة بصوت خافت: "بات أنيس العامري وصمة عار علي جبين التونسيين، أضحينا نتذكره بطريقة آلية عند احتفاليات عيد الميلاد في برلين."
تتذكر أم السعد مليا ذلك اليوم "المنحوس"، كما تصفه وتوضح: "لم يبعد مكان العملية الإرهابية علينا سوى أمتار معدودة." وتضيف "حينما علمت بأن الفاعل تونسي خجلت من نفسي وتمنيت لو أن الأرض قد إبتلعتني." حينها انهمرت عليها وعلى زملائها التساؤلات من كل حدب وصوب.
الآن تحول مكان الحادث إلى فضاء يجذب أعداداً من الزوار، يأتون خصيصا في مثل هذه الأيام لإيقاد شموع ووضع أكاليل الزهور ترحماً على أرواحهم. كما يرى المار على طرف الساحة صوراً لبعض الضحايا، وفي الجهة المقابلة وُضع حجرٌ تذكاري على جدار الكنيسة يوثق يوما أليما عرفته برلين.
مشاعر متباينة تجاه العرب والتونسيين
أنا شميت، امرأة ألمانية أربعينية، من سكان العاصمة برلين، تعشق المنتوج التونسي، وسبق لها أن زارت تونس، ولها ذكريات جميلة في هذا البلد الشمال إفريقي. وتقول لـDW عربية إنها لا تجرؤ حاليا على الذهاب إلى الدول العربية، ومن بينها تونس، نظراً للوضع الأمني فيها.
ولذلك تستغل المرأة الألمانية عرض البضائع التونسية من منتوجات فخارية وعطور في هذا السوق لتأتي وتشاهدها وتشتري ما يعجبها. وتؤكد شميت: "لاشك أنِّي سأزور يوماً شواطئ تونس الذهبية وأسواق جربة، المليئة بمثل هذه المنتوجات التقليدية الجميلة". تقتنص أنا شميت فرصة تواجد الباعة التونسيين في السوق لتتجاذب معهم أطراف الحديث، متعطشة للوصول إلى أخبار سارة قد تدفعها للذهاب مجدداً إلى جزيرة جربة، حيث قضت "أجمل الأوقات"، حسب قولها.
وبينما كانت شميت لا تزال تستحضر أجمل الذكريات في تونس، قال صديقها فلوريان فرايمارك، الذي لم يزر تونس من قبل، إن جريمة الدهس من قبل أنيس العامري لا تعكس سوى شخصية هذا الشاب الإرهابي، وأضاف لنا: "الجالية التونسية ليست حديثة العهد في ألمانيا، وهي معروفة باندماجها في المجتمع، منذ الوهلة الأولى في ستينيات القرن الماضي".
لكن فرايمارك يعترف بأن أصدقاء لهما (هو وأنا) باتوا منذ ذلك التاريخ يخشون زيارة أسواق عيد الميلاد، مضيفاً "منذ ذلك الحين صاروا يتحاشون العرب ويتفادون الاختلاط بهم."
ويسترسل الرجل الأربعيني بالقول "من الخطأ أن نضع كل التونسيين أو العرب في سلة الإرهابيين." ثم أنهى كلامه لـDW عربية مبتسما وقال: "لا شك أني سأزور تونس يوماً ما." ثم انشغل الرجل يُحدِّق مع صديقته في ما تعرضه أم السعد وحميدة في فضاء كشكهما الخشبي.
شكري الشابي - برلين