تونس- في ظل العدالة الانتقالية هل تندمل جراح بسمة؟
٩ ديسمبر ٢٠١٨تزداد حسرة بسمة شاكر حينما تستحضر مشوار صديقاتها أيام الشباب اللاتي تسنى لهن اتمام مشوارهن الدراسي وأصبحن اليوم في مهن الطب والمحاماة والهندسة، بيد أنها لا تبدي أي ندم عن اختيارها طريق النضال ضد القمع والديكتاتورية وهي في عمر الزهور، الأمر الذي كلفها الكثير من المعاناة والكثير من سنوات العمر التي ذهبت دون رجعة.
محققون يغتصبون متهمة
بينما تشارف المعارضة المخضرمة بسمة على العقد الخامس من عمرها اليوم فإن أكثر ما تخشاه في حديثها مع DW عربية أن يظل الدرب بلا أفق، في الوقت الذي تتطلع فيه إلى رد اعتبار منصف وعادل بعد سنوات الجمر التي عاشتها في ظل حكمي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ومن بعده الرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل الاطاحة بحكمه في ثورة شعبية عام 2011.
أوقفت بسمة عن الدراسة في المرحلة الثانوية وطردت من المعهد بينما لم يتعد سنها 16 عاما لانتسابها إلى التيار الإسلامي، ثم خضعت للتحقيق بقسم الشرطة، وهناك تلقت الصدمة الأعنف في حياتها بأن تعرضت للاغتصاب على أيدي المحققين ومن ثم أودعت السجن المدني بدل أن يتم ايوائها بسجن الإصلاحية (المخصص لسن الأحداث) وبقيت هناك حتى سن العشرين.
وتروي بسمة قصتها كما لو كانت بالأمس قائلة "تعرضنا في السجن الى ممارسات مهولة. وعندما وصل بن علي إلى الحكم أفرج عنا لكننا في الواقع لم نكن سوى ورقة لعبها النظام بعد الانقلاب على بورقيبة لكسب التأييد. اذ سرعان ما استؤنفت الممارسات القمعية بعد صعوده الى الحكم".
التعسف يطال أسرة المتهمة
وتتابع بلوعة "غصب علي أن أكون امرأة وأنا بنت ثم غادرت السجن لا أنا بنت ولا أنا زوجة أو أم. أعتبر نفسي حتى اليوم مسجونة. لا يكفي فقط أن تغادر السجن حتى تستعيد حريتك وكرامتك. صدقا أنا أطالب اليوم بتدويل قضيتي".
ومحنة بسمة مضاعفة لأن عائلتها تعرضت بسببها الى التهجير القسري من قبل السلطات من ولاية إلى أخرى، كما انفصل أباها وهو مناضل يساري، عن أمها وتركها مع باقي أخوتها السبعة بسبب ضغوطات اجتماعية.
والعزاء الوحيد لبسمة اليوم أنها تمتعت بجانب الآلاف من السجناء السياسيين بالعفو العام الذي أعقب الثورة وتحصلت على منحة شهرية من صندوق الضمان الاجتماعي منذ نحو ثلاث سنوات لكنها اليوم وعلاوة على احباطها المعنوي فهي تشكو من هضم حقها المهني لأن تسوية المسار المهني للضحايا تغافل عن سنوات شبابها التي ضاعت بين الايقاف والقمع والملاحقة الإدارية. وبالتالي فإنه لن يتسنى لها حسابيا الحصول على الحد الأدنى من التعويض الذي يمكنها من العيش بكرامة، عند إحالتها إلى التقاعد.
انتزاع الاعترافات بتعرية زوجات المتهمين
وعلى الرغم من المعاناة الكبيرة التي عاشتها بسمة شاكر فإنّ وضعها الصحي قد يبدو أرفق حالا من السجينة السياسية بسمة البلعي البالغة من العمر 53 عاما والقادمة من ولاية نابل إلى العاصمة للاحتجاج ضد خطط التعويض "الهزيلة" على حد تعبيرها.
اعتقلت البلعي التي بدأت نشاطها في المجال الاجتماعي التطوعي ومن ثم معارضة سياسية، في ثلاث مناسبات بدءاً من عام 1987 بقيت سجنية لمدة ثلاث سنوات حتى عام 1991، وهي فترة كانت كفيلة بترك أثر بالغ على صحتها لاحقا إذ أصيبت بمرض سرطان القولون وهي تستعين بكرسي متحرك للتنقل. لكن قبل ذلك أوقفت مرة ثالثة للتحقيق معها عام 1994 قبل أن يطلق سراحه لتخضع بعدها إلى المراقبة الإدارية المستمرة.
تحدثت البلعي عن تجربتها لـDW عربية قائلة "عقوبتي كانت نفسية أكثر منها جسدية، أبقى المحققون علي في بهو مركز الايقاف لمدة شهرين عمدا حتى أرى باقي الموقوفين وطرق تعذيبهم عن كثب. وكنت شاهدة على وفاة المناضل المعروف فيصل بركات تحت التعذيب ومن بعده المناضل رشيد الشماخي"
وتذكر البلعي أيضا كيف كان المحققون يجلبون زوجات المعتقلين ويعمدون لتعريتهم بهدف الضغط على أزواجهم والحصول على اعترافات. وتقول السجينة السابقة في إفادتها "كنوز الدنيا لا يمكنها أن تعوضني صحتي. مشكلتي لا تمثلني وحدي لدي زميلتان تعانيان نفس الحالة والمرض. هذا الملف في قطراته الأخيرة وأنا مستعدة للدفاع عنه حتى على حساب صحتي. فمقرر هيئة الحقيقة والكرامة لا يحفظ كرامة الضحايا".
حصيلة متأرجحة لهيئة الحقيقة والكرامة
وفي تونس يعلق ضحايا الاستبداد وهم يعيشون فترة الانتقال الديمقراطي على ما ستقرره "هيئة الحقيقة والكرامة" المكلفة بالتقصي في انتهاكات الماضي، وهي تجربة تبنتها الديمقراطية الناشئة في خطوة لترسيخ العدالة الانتقالية عبر آليتي المحاسبة والمصالحة الوطنية، أسوة بتجارب عالمية سابقة مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أو في الشيلي والبرازيل والبرتغال بعد حقبة الحكم العسكري.
وقد نظرت هيئة الحقيقة في أكثر من 60 ألف ملف لضحايا الاستبداد وأحالت عددا منها على دوائر قضائية متخصصة في العدالة الانتقالية لمحاسبة الجناة ومرتكبي الانتهاكات. بيد أن خيبة الأمل تكمن أيضا في استمرار غياب "الجلادين" على حد تعبير بسمة شاكر، عن جلسات المحاكمة والتي يتوقع ان تستمر لسنوات إلى حين كشف الحقائق للضحايا وإصدار أحكاما نهائية بشأنها.
وفي تقدير سجين الرأي السابق سليم بوخذير الذي تحدث إلى DW عربية فإن مسار العدالة الانتقالية الذي كان يفترض أن يتحول إلى رافد للديمقراطية الجديدة تم استهدافه منذ البداية من قبل مؤسسات الدولة "القديمة"، بتمييع القضايا وحجب الحقائق بشأن الانتهاكات وممارسة ضغوط على القضاء أو اطلاق مسارات أخرى موازية للمصالحة الوطنية.
ويضيف بوخذير في تعليقه "أمكن لأعضاء الهيئة تحصيل ما هو مطلوب منهم لكن بنسبة محدودة. لم يكن بإمكانهم انجاز أكثر مما أمكن لهم تحقيقه بسبب الحصار والعراقيل. لكن ما يتوجب فعله الآن هو حشد قوى المجتمع المدني من اجل التمديد لأعمال الهيئة. الهدف هو عدالة انتقالية وليست انتقامية. نريد معرفة الحقائق حتى تكون الأجيال القادمة على اطلاع عليها".
رئيس الهيئة: "ليس من السهل أن يحوز عمل بشري رضا جميع الضحايا"
بدوره لا يحمل خالد الكريشي العضو في "هيئة الحقيقة والكرامة" أي مسؤولية للهيئة في ظهور أي هنات في نتائج التقصي والمسار المقترح لجبر الضرر المعنوي والمادي، لافتاً إلى أنّ الهيئة تعمل وفق قانون العدالة الانتقالية الذي أصدره البرلمان في عام 2013 قبل تولي الهيئة عملها بعام وقد حدد لها مهامها في ظل امكانات محددة، حسب قوله.
ويوضح الكريشي لـDW عربية قائلا "اشتغلت الهيئة بحسب الصلاحيات التي حددها لها القانون وبحسب امكانيات الدولة وبالعودة إلى تجارب مقارنة. من غير الممكن التعامل مع مسار العدالة الانتقالية حالة بحالة. ثم ليس من السهل أن يحوز عمل بشري رضا جميع الضحايا".
وبرغم المخاوف التي تبديها بسمة شاكر وباقي المعتقلات اللاتي نفذن اعتصاما لأكثر من أسبوعين أمام مقر الهيئة ردا على المقرر الإطاري المبدئي الذي يحدد معايير جبر الضرر المادي والمعنوي الذي نشرته الهيئة، فإنه سيكون من السابق لأوانه تقييم مسار العدالة الانتقالية برمته قبل أن يصدر المقرر النهائي بنهاية العام الحالي 2018، ونشر الحقائق حول الانتهاكات في وقت لاحق لذلك.
"لا يمكن أن تتصالح مع جلاد لا يحضر المحاكمة"
وبالنسبة لآمنة شعبان الناشطة في منظمة العفو الدولية بمكتب تونس، فإن الأهم من انتهاء عهدة "هيئة الحقيقة والكرامة" هو متابعة مسار العدالة الانتقالية ومدى التزام مؤسسات الدولة والدوائر القضائية المتخصصة بتطبيقه فيما بعد.
وتضيف شعبان في تحليلها لـDW عربية "إن تقييم مسار العدالة الانتقالية لا يتوقف فقط على عمل هيئة الحقيقة والكرامة لكنه يرتبط أيضا بتحقيق إصلاحات فعلية في مؤسسات الأمن والقضاء وفي السجون والتصدي لظاهرة الافلات من العقاب".
لكن على الجانب الآخر فإن رؤية بسمة شاكر وعدد آخر من الضحايا لا تحمل في طياتها كثير من التفاؤل في ظل تعثر المحاكمات بالدوائر القضائية.
وتقول بسمة عن ذلك "لا يمكن أن تتصالح مع جلاد لا يحضر المحاكمة كما لا يمكن أن تقبل بالمصالحة بينما الجرح لا يزال غائراً ولم يندمل".
تونس – طارق القيزاني