تونس ـ ألمان حائرون في فك شفرة نوايا الرئيس قيس سعيّد
٢٨ يوليو ٢٠٢١تعامل المراقبون الألمان بنوع من الحيرة والتردد مع الأنباء الواردة من تونس منذ الخامس والعشرين شهر يوليو/ تموز الجاري. بعضهم وصفها بـ"المحزنة" والآخر بـ"الانقلاب" فيما انتظر آخرون قبل إصدار حكم نهائي على ما يحدث. وتجدر الإشارة هنا إلى أن توصيف "الانقلاب" لم تستعمله رسميا أي عاصمة غربية. "بطل" هذه الأحداث هو الرئيس قيس سعيد، شخصية عصية عن الفهم. المفارقة الأولى مرتبطة بمساره المهني وتكوينه الأكاديمي. فكيف يقدم أستاذ للقانون الدستوري، على لي ذراع فقرات أعلى قانون في البلاد في تأويل يدوس على الشرعية الدستورية، حسب منتقديه؟ الارتباك الثاني مرتبط بصورة سعيد لدى التونسيين الذين انتخبوه لنزاهته المفترضة واستقلاليته عن الأحزاب وعدم انغماسه في الفساد. هذه من العوامل التي جعلت المعلقين الألمان يجدون صعوبة في الوهلة الأولى على الأقل في افتراض أن الرجل قادر على قيادة انقلاب على الشرعية الدستورية، وبالتالي إعادة انتاج نماذج استبداد منتشرة في المنطقة العربية.
حتى لحظة كتابة هذا المقال، تميزت ردود الفعل الأوروبية والأمريكية بالاعتدال وتجنبت وصف ما حدث بالانقلاب، خصوصا وأن الرئيس سعيد استند في قراره إلى الدستور، رسميا على الأقل. ولكن مخرجات الإعلان عن تعليق عمل المؤسسات الدستورية كان لها منطق آخر، إذ كان سعيد محاطا بقادة الجيش والشرطة، فيما انتشرت دوريات الجيش في العاصمة. كما أن الجيش هو من منع رئيس البرلمان وزعيم حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي من دخول البرلمان. بعض الأحزاب التونسية نفسها وصفت ما حدث بالانقلاب. غير أن ما يجعل المراقبين مترددين مع ذلك في إصدار حكم نهائي على ما يجري، هو يأس التونسيين من طبقتهم السياسية والمأزق الاجتماعي والاقتصادي وحتى الصحي بسبب جائحة كورونا الذي تختنق فيه البلاد. فكثير من التونسيين باتوا يأملون في مخرج ينقذ البلاد من الانزلاق نحو المجهول، حتى وإن تعطل إنجاز أحلام ثورة 2011 إلى حين.
الفقر والبطالة ـ نزيف الديموقراطية التونسية الفتية!
موقع "شبيغل أونلاين (27 يوليو/ تموز 2021) طرح سؤالا في هذا الاتجاه وكتب "هل يمكن أن يقود التغيير السياسي إلى الديمقراطية، إذا ظل الناس فقراء ولا يرون نهاية للصعوبات الاقتصادية؟ تونس مهد احتجاجات الربيع العربي في عام 2011، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تمسكت بالعملية الديمقراطية منذ ذلك الحين. ولطالما حذر المراقبون منذ سنوات من أن الاقتصاد التونسي المنهك يهدد هذا التغيير. اليوم أصبحت الديمقراطية في هذا البلد على حافة الهاوية". ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة بعد ثورة عام 2011، رغم وضعها البلاد على سكة الديموقراطية، من إيجاد حلول لمشاكل التونسيين وانتظاراتهم الاقتصادية والاجتماعية. واستطرد الموقع في مقال آخر حول نفس الموضوع (27 يوليو) وكتب "لقد وصلت الديمقراطية التونسية إلى طريق مسدود، فقد انهار حزب النهضة الإسلامي، وتولى الرئيس قيس سعيد كامل السلطة. خطوة محفوفة بالمخاطر لكنها تثير آمال العديد من التونسيين".
ويبدو أن التونسيين أنفسهم، منقسمين حول رغبتهم في الانعتاق الاقتصادي والاجتماعي كأولوية قد تسبق أحلام الثورة الديموقراطية. صحيفة "تاغستسايتونغ" اليسارية (26 يوليو) اختارت عنوانا يلخص هذا التمزق والنقاش الدائر داخل المجتمع المدني التونسي حول دستورية قرارات سعيد. واختارت الصحيفة عنوانا معبرا يعكس هذا الانقسام: "هتافات تأييد وأحجار متطايرة" لوصف رد فعل الشارع التونس بعد قرار قيس سعيد. واستطردت الصحيفة موضحة "يناقش نشطاء حقوق الإنسان والفقهاء الدستوريون ما إذا كان لقيس سعيد الحق، كما يزعم، في تجريد البرلمان والحكومة من السلطة. المحلل سليم خراط يشكك في متانة الاستناد للفقرة 80 من الدستور، التي قام بتفعيلها سعيد. فقرة تعطي الرئيس الحق في الاستحواذ على السلطة في حال انهيار وشيك للنظام العام (..) لم تتمكن الأحزاب السياسية المنقسمة، من الاتفاق على إنشاء محكمة دستورية خلال ثماني سنوات الماضية. وأضاف خراط: "قضاة دستوريون هم وحدهم القادرون على نزع فتيل الوضع الخطير الحالي".
على غرار العواصم الغربية برلين تدعو للالتزام بالدستور
رد فعل الحكومة الألمانية جاء على لسان متحدثة باسم وزارة الخارجية (الاثنين 26 يوليو) قالت فيه "نعتقد أنه من المهم الآن العودة بسرعة إلى النظام الدستوري"، وطالبت جميع الأطراف بـ "ضمان الامتثال للدستور في تونس وتطبيقه"، موضحة أن هذا يشمل أيضا الالتزام بالحريات، التي تعد من أهم إنجازات الثورة التونسية. وأضافت المتحدثة أن الوضع في تونس يؤكد الحاجة الملحة إلى معالجة الإصلاحات السياسية والاقتصادية بسرعة "لا يمكن أن ينجح هذا إلا إذا عملت جميع الأجهزة الدستورية معا بشكل بناء"، مؤكدة ضرورة استعادة قدرة البرلمان على العمل بسرعة. وأكدت المتحدثة أن "تونس قطعت شوطا جيدا، بل ورائعا في السنوات الماضية"، مضيفة أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السلمية الماضية أظهرت أن "الشعب التونسي يريد الديمقراطية، وكذلك أن الديمقراطية ترسخت في تونس منذ 2011". واستطردت موضحة أن السفير الألماني في تونس يجري محادثات مع وزارة الخارجية الألمانية عن الأوضاع، وقالت إن وزارة الخارجية الألمانية ستسعى أيضا إلى إجراء محادثات مع السفيرة التونسية في برلين. وبهذا الصدد كتب موقع "فيلت" (27 يوليو) إن البلد الذي كان يعتبر نموذجا بارزا في "الربيع العربي" ينذر اليوم بالغرق في الفوضى، ما سيكون عواقب وخيمة أيضًا على أوروبا وألمانيا".
وتسارعت دود لفعل الدولية حيث اتصل وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن (الاثنين 26 يوليو) هاتفيّاً بالرئيس سعيد. وقالت وزارة الخارجيّة في بيان إنّ بلينكن دعا سعيّد إلى "الإبقاء على حوار مفتوح مع جميع الفاعلين السياسيّين والشعب التونسي". وأشار البيان إلى أنّ بلينكن "شجّع الرئيس سعيّد على احترام المبادئ الديموقراطيّة وحقوق الإنسان التي تشكّل أساس الحكم في تونس". فيما قال متحدّث باسم الاتحاد الأوروبي "ندعو كل الجهات الفاعلة في تونس إلى احترام الدستور، والمؤسسات الدستورية وسيادة القانون"، وتابع "ندعوهم كذلك إلى التحلي بالهدوء وتجنّب أي لجوء للعنف حفاظا على استقرار البلاد". فيما دعت فرنسا (القوة الاستعمارية السابقة) إلى احترام سيادة القانون في تونس، وحثت جميع الأطراف السياسية على تجنب العنف.
نائبة بارزة من "الخضر" تدعو الحكومة للمساعدة
نقل موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى (27 يوليو) عن نائبة حزب الخضر كلاوديا روث دعوتها للحكومة الألمانية للتدخل الفوري للمساعدة في استقرار تونس. وقالت روث إنه يجب العمل على ممارسة ضغط دولي على الرئيس قيس سعيد والجيش التونسي لإعادة البلاد إلى المسار الديموقراطي.
وتابعت روث أن الإطاحة بحكومة ديمقراطية وبرئيس وزرائها وتعليق عمل البرلمان لمدة 30 يومًا ورفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، يتناقض مع الديموقراطية. وأوضحت أن تونس يجب أن تعود إلى نظامها الدستوري. ومن أجل تهدئة الوضع داخل أجهزة الدولة وكذلك لدى السكان، فإن عمل البرلمان وإطلاق حوار وطني هما شرطان أساسيان مهمان. وأضافت روث أنه يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي الاستمرار في المساعدة في احتواء جائحة كورونا في تونس وتحسين الوضع الاقتصادي المتدهور فيها. وترى ألمانيا ومعها الاتحاد الأوروبي في استقرار تونس أمرا حاسما بالنسبة للضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. فرغم التعثر الحالي، فإن عددا من السياسيين الألمان ككلاوديا روث يرون أن على المجتمع الدولي العمل على ضمان عدم تعريض الانتقال الديموقراطي التونسي للخطر.
من أسباب التعثر ـ فشل النخب التي أفرزتها الثورة
بعد دعوته السابقة لأنصاره إلى الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على قرارات قيس سعيد، عاد حزب النهضة الإسلامي، أكبر القوى السياسية في البلاد، إلى الدعوة إلى حوار وطني شامل لإخراج البلاد من أزمتها الحالية. وسبق للحزب وأن اتهم على لسان زعيمه راشد الغنوشي، قيس سعيد بقيادة انقلاب على الدستور. وطلب الحزب من أنصاره عبر فروعه عدم مواصلة اعتصامهم أمام مبنى البرلمان. وأبدى الحزب استعداده للمشاركة في انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة لحل الأزمة الحالية. وقال القيادي نور الدين البحيري لوكالة فرانس برس "قرّرنا النضال السلمي لإفشال هذا المشروع، وندعو الرئيس إلى مراجعة هذه القرارات والعودة إلى العقل (..) بلادنا تحتاج إلى تضامن وطني. لسنا في حاجة لافتعال قضايا خلافية تقسم المجتمع والمؤسسات والدولة والأحزاب وتعزل تونس دوليا". ويرى مراقبون أن قيادات حزب النهضة كما الأحزاب الأخرى ساهمت في نفور التونسيين من طبقتهم السياسية المنغمسة في الصراعات الشخصية، حيث تحول البرلمان إلى حلبة تلاسن وصراع لا ينتهي.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "دي بريسه" النمساوية (27 يوليو) "إنها لعبة شديدة الخطورة تلك التي تلعبها النخبة السياسية التونسية بشأن مستقبل البلاد. وسيتقرر في الأيام المقبلة ما إذا كان بإمكان جميع المعنيين إيجاد مخرج آخر للأزمة السياسية العميقة. فهل ستنتهي قصة النجاح الوحيدة لما يسمى بالربيع العربي، بكابوس، كما كان حال بلدان أخرى في المنطقة (...). يتعين على المسؤولين السياسيين بذل قصارى الجهود لمنع تونس من السقوط في الهاوية. كما يجب على الأوروبيين أن يتحركوا بسرعة. بؤرة جديدة مضطربة جنوب البحر الأبيض المتوسط بجوار ليبيا هو آخر شيء يمكن أن يحتاجوا إليه".
تطمينات بشأن المسار الديموقراطي ..ولكن!
بعد تنامي القلق الدولي حول الخلفيات الحقيقية لخطوات سعيد وغموض نواياه الحقيقية، سارع وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي للقيام باتصالات ماراثونية بشركاء تونس وبالمنظمات الإقليمية والدولية لاطلاعها على تطورات الوضع ولطمأنتها بشأن المسار الديمقراطي في البلاد. وأجرى الجرندي اتصالات بوزراء خارجية إيطاليا وفرنسا وتركيا وكاتب الدولة للشؤون الخارجية في ألمانيا، بالإضافة لاتصالات مع وزراء خارجية السعودية والكويت ومصر. كما كان للجرندي اتصالات مع المفوضة السامية لحقوق الانسان والممثل السامي للشؤون الخارجية وسياسة الأمن بالاتحاد الأوروبي والأمين العام لجامعة الدول العربية والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي. وقال الجرندي في بيان إن قرارات الرئيس قيس سعيد هدفها الحفاظ على المسار الديمقراطي وحماية المؤسسات الدستورية وتحقيق السلم الاجتماعي.
لكن الأيام والأسابيع لمقبلة وحدها من سيحسم في الكشف عن خلفيات التغييرات في تونس. صحيفة "يونغه فيلت" (27 يوليو) عرضت بالدرس والتحليل لمقتضيات المادة 80 من الدستور التي استند عليها سعيد وكتبت "تنص تلك المادة الدستورية على وجوب استشارة رئيس الجمهورية رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، وإبلاغ رئيس المحكمة الدستورية. كما أن البرلمان يظل منعقداً طوال الفترة الاستثنائية. هذه المادة التي استند إليها رئيس الجمهورية تم انتهاكها عدة مرات، لأن رئيس الحكومة رهن الإقامة الجبرية من قبل الجيش المنتشر في كل مكان. كما منع الجيش رئيس البرلمان من الوصول إلى مجلس النواب، الذي منعه الجيش من الانعقاد. إذن فهو انقلاب رئاسي؟ على أقل تقدير تقول الصحيفة.
حسن زنيند