توظيف التجربة الإعلامية الألمانية من أجل تطوير إعلام عربي مستقل
١٦ سبتمبر ٢٠٠٦في إطار الجهود الحثيثة التي تبذلها مؤسسات المجتمع المدني الألمانية من أجل تعزيز الحوار البناء مع العالم العربي والإسلامي بصورة عامة، ومع العاملين في حقل الإعلام فيه بصورة خاصة، قامت مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور في الفترة ما بين 4 و15 سبتمبر/ أيلول 2006 بتنظيم ورشة عمل مكثفة شارك فيها ثلاثة عشر إعلامياً وإعلامية من دول المشرق العربي. وتحت عنوان "الحكم الراشد وأخلاقيات العمل الصحفي"، دعا منظمو هذه الورشة الخاصة نخبة من المحاضرين والسياسيين وصناع القرار في حقل الإعلام الألماني إلى تقديم محاضرات وحلقات دراسية تم خلالها تعريف ممثلي وممثلات جيل الإعلام العربي الشاب بتطور وآليات عمل الإعلام الألماني ودور "السلطة الرابعة" في إطار منظومة صناعة القرار السياسي. كما أتيحت للمشاركين العرب فرصة النقاش المباشر للتعرف على خصوصية المشهد الإعلامي الألماني وزيارة عدة هيئات ومؤسسات سياسية كالحزب المسيحي الديمقراطي ومبنى البرلمان الألماني "البوندستاغ"، والنصب التذكاري لضحايا المحرقة النازية، إضافة إلى مقر مؤسسة كونراد اديناور. يذكر أن تركيز منظمي هذا اللقاء على هذه الكوادر القيادية الإعلامية الشابة يعود إلى كونها أداة تأثير فاعلة في المجتمعات العربية تملك القدرة على التواصل مع الآخر والاستفادة من تجاربهم الناجحة.
ولادة إعلام ألماني من رحم الحرب العالمية الثانية
وبجانب إلقاء الضوء على كيفية تنظيم العلاقة بين السياسة والصحافة في جمهورية ألمانيا الاتحادية، تمركز محور الورشة في المقام الأول حول تعريف الإعلاميين العرب بتجربة ولادة إعلام ألماني يتمتع بالاستقلالية الكاملة من رحم الحرب العالمية الثانية. وفي بداية رحلة التعريف أشارت ممثلة العلاقات العامة في مجلس الصحافة الألمانية إيلا فاسنك إلى قيام "الصحافيين الألمان في بداية الستينات بتأسيس هذه الهيئة الرقابية الذاتية، التي تأخذ على عاتقها نشر الوعي بضرورة الالتزام بميثاق الشرف الصحفي في ألمانيا من أجل تحييد دور الدولة وتجنب تدخلها في آليات العمل الصحفي." وفضلا عن ذلك جانبها لفتت السيدة فاسينك في محاضرتها التي حملت عنوان "رقابة الإعلام من خلال الإعلام نفسه" انتباه المشاركين إلى تجربة هذه الهيئة الفريدة من نوعها على الصعيد العملي، حيث شرحت جملة الإجراءات العقابية التي تقوم بفرضها على الصحف التي تتجاوز المعايير الأخلاقية المتفق عليها.
"لا قيود سياسية على الإعلام الألماني"
في مستهل افتتاحية ورشة العمل في برلين ركز مديرها كارستن فون نامين من أكاديمية دويتشه فيله على أن "الدستور الألماني في مادته الخامسة يضمن حرية العمل الصحفي طالما انه لا يمس بكرامة الإنسان، التي تكفلها المادة الأولى من الدستور الألماني والتي تشدد على ضرورة عدم السماح بالمساس بها لأي سبب". كما أشار الإعلامي الألماني فون نامين إلى القضاء الألماني يضمن استقلالية العمل الصحفي، وخاصة المحكمة الدستورية الاتحادية التي تشكل درع وقاية لحماية العاملين في مجال الإعلام.
أما إيلا فاسنك فقالت في معرض شرحها لطبيعة دور الإعلام الألماني: "وسائل الإعلام في ألمانيا تراقب عمل السلطات الثلاثة الأخرى، كما يتم مراقبة هذه الوسائل من خلال سن قوانين تحدد آليات وحدود الحرية الصحفية. لكن الدستور الألماني يكفل للإعلام هامش حرية كبير جداً." وفي نفس السياق شدد ممثل العلاقات الدولية في الاتحاد الألماني للصحفيين، ميشائيل كليم، على دور المتلقي في ممارسة نوع من الرقابة على أداء وسائل الإعلام. أما في ما يتعلق بحيادية العمل الإعلامي وابتعاده عن التأثير السياسي المباشر فقد نوه كليم إلى أن "بعض وسائل الإعلام لها في الواقع توجهات سياسية. لكن النقطة الحاسمة فيما يتعلق باستقلالية العمل الصحفي فتكمن في عدم ممارسة تأثير مباشر على عمل هيئة التحرير."
الاستفادة من التجربة الإعلامية الألمانية
وفي إطار جملة الزيارات التي قام بها المشاركون في ورشة العمل أتيحت للكوادر القيادية الإعلامية العربية فرصة التعرف علي طبيعة العلاقة الشائكة بين السياسيين والإعلاميين من خلال زيارتهم لهيئة تحرير مجلة تسيتسيرو Cicero، التي أثار قيام أجهزة الأمن الألمانية في العام الماضي باقتحام مكتبها الرئيسي ضجة سياسية وإعلامية عرفت في المشهد الإعلامي الألماني باسم "فضيحة تسيتسيرو". كما تضاعفت هذه الواقعة نظرا لقيام الأجهزة الأمنية الألمانية بمصادرة وثائق هامة تخص هيئة التحرير بحجة البحث عن مصدر معلومات سرية للغاية حصل عليها احد كتاب المجلة ونشرها في مقال له حول محاولة حصول أبو مصعب الزرقاوي على أسلحة كيميائية. وبالرغم من تشديد الأجهزة الأمنية الألمانية على أن هذا الإجراء يصب في خدمة أمن ألمانيا فقط، ولا يهدد حرية الصحافة الألمانية، إلا أن هذه المجلة السياسية الشهرية رفعت دعوى قانونية أمام القضاء الألماني ضد هذه الإجراءات غير المقبولة من وجهة نظرها. ومن المتوقع أن تبت المحكمة الدستورية الاتحادية في هذه القضية في الأشهر القادمة.
وفي ختام ورشة العمل المكثفة عبرت غالبية المشاركين العرب عن قناعتها بضرورة الاستفادة من التجربة الإعلامية الألمانية بشكل عملي وذلك بالبدء فورا بإنشاء هيئة إعلامية عربية للرقابة الذاتية تأخذ على عاتقها تحييد تأثير سلطات الدولة بقدر الامكان، ونشر الوعي بضرورة الالتزام بأخلاقيات العمل الصحفي.