تقليص مشاريع عملاقة بالسعودية.. هل رؤية 2030 في ورطة؟
٢٦ يونيو ٢٠٢٤عند إعلان السعودية عن تدشين "رؤية 2030" الرامية إلى تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط، استغرب كثيرون، داخلها وخارجها، من حجم هذه المشاريع وضخامتها وفي بعض الأحيان غرابتها لا سيما إنشاء قرية ثلجية لممارسة التزلج في الصحراء وتشييد مدينة نيوم التي ستكون خالية من الكربون.
وكانت "رؤية 2030" تدور حول تغيير المفاهيم العالمية حيال السعودية حيث ترمي إلى إظهار المملكة المحافظة وكأنها في مرحلة التحديث بعيدا عن النظرة السائدة عنها كدولة تحكمها عائلة ملكية استبدادية لا تتهاون مع أي شكل من أشكال المعارضة سواء سياسيا أو اجتماعيا.
بيد أنه مع مرور الأعوام منذ تدشين "رؤية 2030" ، تغيرت الأمور خاصة خلال الأشهر القليلة الماضية فيما تحدث وزراء سعوديون عن كيفية تقليص تنفيذ بعض المشاريع العملاقة.
ففي أبريل / نيسان الماضي، قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان إن الحكومة ستعمل على تعديل خطتها المتعلقة برؤية 2030 "وفقا لما تقتضيه الحاجة".
وخلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي نظمته الرياض في أبريل / نيسان الماضي، قال الوزير السعودي "هناك تحديات، سنغير المسار وسنتأقلم وسنوسع بعض المشروعات...سنقلص حجم بعض المشروعات وسنسرع وتيرة أخرى".
فعلى سبيل المثال، أعلنت السلطات السعودية تقليصا في عدد السكان المتوقع في مدينة "ذا لاين" بأن يصبح قرابة 300 ألف نسمة بحلول 2030 وليس 1.5 مليون نسمة كما كان مخططا في السابق.
وكان يشمل بناء المدينة التي تقدر تكلفتها نحو 500 مليار دولار، تشييد ناطحات سحاب متوازية مغطاة بالمرايا لمسافة تمتد لأكثر من 170 كيلومترا، لكن جرى تقليص المسافة إلى نحو كيلومترين.
ولا يعد هذا التعديل الأول الذي تقرره السلطات السعودية بشأن مدينة نيوم، الذي أُعلن عنها في 2017، إذ كان من المفترض أن يتم الانتهاء من المشروع بحلول عام 2030، لكن يبدو الآن أنه من المرجح أن تستغرق مرحلة التنفيذ 20 عاما أخرى.
وفي السياق ذاته، ذكر مراقبون أن تكلفة إنشاء المدينة قد تتجاوز عتبة 2 تريليون دولار.
لماذا التأخير؟
وأضاف مراقبون أن جوانب أخرى من "رؤية 2030" لم يُجر تنفيذها كما هو مخطط لها إذ كان الهدف المسبق وراء بعض المشاريع جذب المستثمرين الأجانب إلى السعودية، لكن يبدو أن المهمة لم تعد سهلة إذ ظلت مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر أقل من المتوقع.
ويقول المحللون إن المستثمرين الأجانب باتوا أكثر ترددا في ضخ استثماراتهم في السعودية سواء بسبب الاضطرابات الإقليمية مثل الصراع في غزة وأزمة الملاحة في البحر الأحمر وأيضا بسبب افتقار الرياض إلى الشفافية الكاملة في تنظيم هذه المشروعات.
ورغم أن قيادة السعودية كانت تتوقع في بادئ الأمر أن تتحمل الكثير من فاتورة تنفيذ "رؤية 2030"، إلا أنه يبدو أنها باتت الآن مضطرة إلى تحمل الفاتورة كاملة تقريبا فيما يأتي جُل هذا التمويل عبر بوابة "صندوق الاستثمارات العامة"– صندوق سيادي مملوك للدولة ويعد أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم ويعتمد بشكل كبير على عائدات النفط السعودية.
وكان مارس / آذار الماضي قد شهد إعلان السعودية نقل 8% من أسهم شركة أرامكو النفطية العملاقة المملوكة للدول، إلى صندوق الاستثمارات العامة ليرتفع رأس ماله إلى أكثر من 1.5 تريليون دولار بعد أن بات يمتلك 16% من شركة أرامكو التي تعد رابع أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية.
في المقابل، ألمحت أصوات منتقدة إلى أنه رغم أن الصندوق يدير محفظة أصول بقيمة 940 مليار دولار، إلا أنه لا يملك سوى حوالي 15 مليار دولار من هذه الأموال.
وفي السياق ذاته، عزا محللون صعوبة تنفيذ مشاريع "رؤية 2030" إلى الاعتماد بشكل رئيسي على أسعار النفط إذ أفاد صندوق النقد الدولي بأن الرياض في حاجة إلى بلوغ أسعار نفط تصل لعتبة الـ 96 دولارًا للبرميل من أجل تنفيذ مشاريعها العملاقة.
يشار إلى أن سعر برميل النفط الخام ارتفع من حوالي 70 دولارا في يناير / كانون الثاني الماضي إلى قرابة 81 دولارا الشهر الجاري.
كذلك ذكرت وكالة بلومبيرغ قبل أيام بأن السعودية باتت أكبر بائع للسندات بين الأسواق الناشئة لتتخطى الصين التي ظلت في الصدارة لأكثر من عشر سنوات.
ويقول محللون إنه يتم إصدار السندات الحكومية لتمويل الإنفاق العام ما يعني أنها تعد شكلا من أشكال القروض حيث تدفع الحكومات فوائد لحاملي سنداتها.
ونقلت بلومبرغ عن خبراء قولهم إن السعودية باتت تصدر المزيد من السندات أكثر من أي وقت مضى من أجل تغطية نقص الاستثمار الأجنبي المباشر، محذرين من أن الرياض لن تكون قادرة على الاستمرار في إصدار السندات بنفس الوتيرة الحالية لفترة طويلة بسبب عبء الفائدة.
هل رؤية 2030 في ورطة حقيقية؟
بدوره، قال روبرت موجيلنيكي، الباحث المقيم في معهد "دول الخليج العربية" بواشنطن، إنه في ضوء عوامل عدة، "يمكن القول بأن هناك درجة معينة من المناورة تشهدها السياسة الاقتصادية الحالية بالسعودية".
وفي مقابلة مع DW، أضاف أن تصريحات المسؤولين السعوديين الأخيرة تشير إلى رغبة في إعادة النظر في الجداول الزمنية الخاصة بتنفيذ المشروعات العملاقة، مشيرا إلى أن الأمر "غير عادي بشكل ضمني، لأننا لم نسمعه منذ إطلاق رؤية 2030."
وقال الباحث إن "الوضع الحالي لرؤية 2030 ليس مذهلا، لكنه ليس كارثيا كما يتصوره الكثير من الناس. الحقيقة أنها في مكان ما في الوسط".
ويشير الخبراء إلى أن وتيرة تنفيذ بعض جوانب "رؤية 2030" تسير بشكل جيد إذ خلص تقرير نصف سنوي أصدره المصرف الاستثماري الأمريكي "سيتي غروب" في فبراير/شباط الماضي إلى حدوث تقدم كبير في جوانب مثل مشاركة المرأة في القوى العاملة ومستويات ملكية المنازل لدى سكان البلاد وارتفاع إيرادات القطاعات غير المرتبطة بالنفط.
وفي ختام بعثة مشاورات، أصدر باحثو صندوق النقد الدولي بيانا في يونيو/حزيران جاء فيه أن "التحول الاقتصادي غير المسبوق في السعودية يتقدم بشكل جيد مع الترحيب بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق حيال رؤية 2030".
وأوضح موجيلنيكي أنه منذ تدشين "رؤية 2030"، فقد تطورت بعض المشاريع، لكنها تعتمد على التنوع والتطور السريع، مضيفا أن هناك رغبة في إعادة التقييم في ضوء مقارنة تكاليف بعض المشاريع من جهة وبين التمويل اليومي المتاح من جهة أخرى.
وأشار الباحث إلى أن بعض المشاريع مثل تطوير الهيدروجين الأخضر، يُنظر إليها في الوقت الراهن بأنها جديرة بالاهتمام فيما سيتم إطالة أمد جداول تنفيذ مشاريع أخرى.
وشدد موجيلنيكي على أنه من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى إضعاف قبضة عائلة "آل سعود" على السلطة.
وقال إنه "من المؤكد أن السعوديين مازال يمتلكون الكثير من الأوراق، لكن من الانصاف القول بأنهم في الوقت الحالي لم ينخرطوا في الأمر بشكل نشط وقوي. شرعت [رؤية 2030] في إحداث تحولًات كبيرة وجوهرية في المسارات الاقتصادية والاجتماعية بالسعودية، لكن الأمر ما زال يتطلب الكثير والكثير من العمل".
أعده للعربية: محمد فرحان