تعثر التنمية يقوّض مكتسبات الثورة التونسية في ذكراها السابعة
٩ يناير ٢٠١٨لم يكن الكثير من المتفائلين بالثورة التونسية، التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي، يعتقدون أنه في الذكرى السابعة لهروبه من تونس في الـ14 يناير/ كانون الثاني 2011، ستستمر الاحتجاجات المطالبة بالعيش الكريم، وستصل حدّ "عمليات تخريب" على حدّ وصف الحكومة، إذ تظهر تونس في عام 2018، مساحة فريدة للحرية السياسية في العالم العربي، لكنها في الوقت نفسه تعاني من صعوبة بالغة في التجاوب مع المطالب الاجتماعية لمواطنيها، ممّا يجعل ثورتها على المحك.
الاحتجاجات الجديدة تطوّرت أكثر خلال أمس الاثنين 08 يناير/ كانون الثاني، ووصلت إلى أعمال عنف أدانتها الحكومة التونسية بشدة، أسفرت عن مقتل متظاهر واحد، قالت السلطات إنه توفي نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع، فيما قال متظاهرون إنه توّفي نتيجة "عنف القوات الأمنية".
وتعود أسباب الاحتجاج إلى رفض قرارات الحكومة بفرض ضرائب جديدة على بعض المنتجات والخدمات ورفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية وخفض واحد بالمئة من رواتب الموظفين. وتبرّر الحكومة التونسية هذه الإجراءات بكونها "ضرورة" لوقف تداعيات عجز الموازنة العامة، الذي اقترب من ستة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، خاصة وأن البلد استقبل الكثير من القروض الدولية، التي لم تكن لتمنح له لولا نهج سياسة التقشف، فيما سبق للنقابات التونسية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، أن حذرت من أن أيّ زيادة في أسعار المواد الغذائية ستؤدي إلى قلائل اجتماعية.
ولم تشهد تونس طوال السنوات السبع الماضية هدوءًا في حراك الشارع، فقد تفجرت الاحتجاجات في أكثر من منطقة، وتعدّدت مظاهر حرق محتجين لأجسادهم، كما كثرت المناوشات مع القوات العمومية التي خرجت بدورها للاحتجاج على واقعها، إذ احتجت تقريباً كلّ القطاعات في تونس على واقعها، ممّا جعل الكثيرين يشكّكون في خروج سريع لتونس من دوامة التخبّط الاجتماعي، رغم أن الدولة قامت بخطوات كثيرة غير مسبوقة، جعلت منها مثالاً مشرقاً في منطقة عانت من العتمة السياسية.
ويرى الخبير الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان، أن المالية العمومية في تونس تعاني "وضعا صعباً للغاية نتيجة ضعف سياسات الحكومات المتتالية وارتفاع نفقات الدولة"، وهو ما يؤكده ارتفاع الدين العمومي إلى 40 مليار دينار (حوالي 13.4 مليار يورو) وتدني القدرة الشرائية بـ25 في المئة، والتحاق جزء كبير من الطبقة الوسطى بالفقيرة. ويتابع سعيدان في تصريحات لـDW عربية أن الاقتصاد التونسي يعيش نزيفاً مستمرا وكل مؤشراته تتدهور سنة إلى أخرى، ممّا يجعل الدولة في حاجة إصلاح هيكلي، وإلّا ستكون البلاد مهددة بما هو أخطر.
شباب يعاني البطالة
لا شيء يؤرق السلطات التونسية أكثر من استمرار نسبة البطالة، فقد وصلت في نهاية عام 2017 إلى 15.3 بالمئة، وتمسّ هذه البطالة أكثر أصحاب الشهادات العليا، ممّا جعل عدة مناطق بالبلاد تشهد اعتصامات للعاطلين، من أخطرها ما وقع في الكامور بولاية تطاوين، عندما أدى الاعتصام إلى إيقاف مضخة للبترول.
ووجدت الحكومة نفسها بين مطرقة مطلب التشغيل وسندان ما يكلفه بحق الخزينة العمومية. ففي الوقت الذي رغب فيه يوسف الشاهد، رئيس الحكومة، بتقليص عدد الموظفين بالقطاع العام، حتى يخفّف من عجز الموازنة، لا يجد الآلاف من شباب تونس البديل في القطاع الخاص، الذي يعاني من تدهور مناخ الأعمال وندرة الاستثمار الأجنبي، رغم كل الجهود التي بذلتها تونس في هذا السياق، ممّا يجعل مداخيل الدولة متدنية مقابل ارتفاع نفقاتها، خاصة مع استحضار تراجع عائدات الضرائب خلال السنوات الماضية.
حاولت الحكومة التونسية منذ سنوات إحداث فرص للشغل لإنهاء حالة الاحتقان دون جدوى، وفي هذا السياق، يرى عز الدين سعيدان، أنه لا يمكن خلق وظائف للشباب دون رجوع ماكينة الاستثمار ودون تسجيل نسب نمو مرتفعة، مشيراً إلى أن البحث عن حلول ترقيعية لإسكات المحتجبين من شأنه مزيداً من تعقيد الوضع، فـ"الأمر يتعلّق بمسكنات ظرفية ينتهي مفعولها بسرعة".
غير أن الكثير من شباب تونس لا يرغبون أن تؤدي جيوب المواطنين التونسيين ثمن هذه الإصلاحات، لذلك جرى اطلاق حملة احتجاجية اسمها "فاش نتسناو" (ماذا ننتظر؟)، هدفها الاحتجاج على قانون المالية لعام 2018. وقد بدأت الحملة أوّل تحركاتها هذا الشهر بعدة وقفات في التراب التونسي.
في حديث لـDW عربية من قلب مسيرة في العاصمة التونسية، ينتقد حمزة عبيدي، أحد أعضاء حملة "فاش نتسناو" (ماذا ننتظر؟)، سياسات الحكومة الحالية، معتبراً أن إجراءات التقشف "جاءت بإملاءات من صندوق النقد الدولي"، وأنها لن تنتج شيئاً غير تعميق الأزمة الاجتماعية. ويتابع حمزة أن المنظومة الاقتصادية التونسية لم تتحسن بعد الثورة لأنها لا تزال قائمة على السياسات المتبعة منذ الاستقلال، إذ يحيل على وجود "اقتصادٍ موازٍ وعمليات كبيرة للفساد".
مكتسبات سياسية متعددة
لكن المشاكل الاجتماعية في تونس لا تخفي الكثير من الحقائق، التي جعلت البلد رائداً سياسياً بالمنطقة العربية، فالإصلاحات السياسية في تونس أنتجت دستوراً متقدماً يعزّز الاختيار الديمقراطي ويحدّد صلاحيات رئيس البلاد ويضع ضمانات قوية للفصل بين السلطات ويربط المسؤولية بالمحاسبة، فضلاً عن تعزيزه لحقوق الإنسان ونصه على إحداث تشريعات تمنع العديد من الانتهاكات، التي عرفت بها تونس في عهد بن علي.
كما وضع البرلمان التونسي عدة قوانين نالت تقديراً عالميا، كتلك المتعلقة باستراتيجية مكافحة الفساد، ومحاربة أشكال العنف ضد المرأة والوقاية من التعذيب وتعزيز شفافية المالية العمومية وتعزيز استقلالية القضاء وتعزيز حرية الرأي والتعبير ودعم الوصول إلى المعلومة. كما استفادت الجمعيات والأحزاب والصحف التونسية من مناخ من الحرية. ويبقى أقوى إنجاز في تونس هو تجنب العنف في مرحلة ما بعد الثورة، وحدوث توافق بين الأحزاب، خاصة بين نداء تونس العلماني وحركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، في وقت عرفت فيه بلدان الربيع العربي انتكاسات سياسية كبيرة أدت في بعضها إلى حروب أهلية.
غير أن تونس تواجه بعض التحديات في إنشاء بعض المؤسسات الدستورية، ومن ذلك التأخر في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، فضلاً عن البطء في انتخاب المجالس الجهوية والدستورية، زيادة على التقاطب الحاد بين القوى السياسية، وهو ما أدى إلى تغييرات متعددة على مستوى الجهاز التنفيذي، إذ شهدت البلاد عشر تعديلات حكومية منذ الثورة.
وفي مقابل الإشادة الحكومية بمكافحة الفساد، يرى حمزة عبيدي العضو بحملة "فاش نتسناو" أن "الحرب على الفساد مجرّد تسويق إعلامي، وأن منظومة الحكم تناقض نفسها". و يبرّر كلامه بالقول: "لم يُعتقل في إطار مكافحة الفساد سوى بضعة رجال أعمال، بعضهم اعتقل في إطار تصفية حسابات، فيما لا تزال أسماء مشهورة بالنهب والتهرب الضريبي والفساد خارج المتابعة، إذ استفادت من قانون المصالحة". في إشارة منه إلى القانون الذي يعفو عن موظفين عموميين سابقين متهمين بقضايا فساد.
إنقاذ الثورة
يقتنع عز الدين سعيدان، الخبير الاقتصادي التونسي، أن الحلّ لما تواجهه تونس من إشكاليات اقتصادية لن يمرّ سوى بإصلاح هيكلي، خاصة وأن قدرة البلاد على الحصول على ديون إضافية لم تعد ممكنة. ويستحضر الخبير تجربة تونس في عام 1986 عندما عانت من أزمة مالية، فلجأت الحكومة حينئذ إلى برنامج هيكلي يراه سعيدان ناجحاً؛ بما أنه أتاح تسديد قروض النقد الدولي، لكن الخبير يستدرك أن الأوضاع حالياً أكثر صعوبة ممّا كانت عليه.
ولتحقيق هذا الإصلاح، يقترح سعيدان مدخلاً اقتصادياً بعودة الاستثمار العمومي في البنى التحتية، إذ يرى أن هذا الاستثمار كان شبه غائب في السنوات الأخيرة، ومن شأنه عودته أن يعود الاستثمار المحلي الخاص، الذي من شأنه أن يجذب الاستثمار الأجنبي.
غير أن حمزة عبيدي، يعطي مدخلاً سياسياً لحلّ الأزمة. ففي تقديره الشخصي، يجب أن يكون البناء من أسفل إلى أعلى، عبر تنظيم ذاتي للشعب في لجان محلية، يفوّضون من خلالها ممثلين محليين، يتم انتخابهم على المستويين الجهوي والوطني عبر انتخابات تشاركية. ويشدّد عبيدي على ضرورة القطع مع المنظومة السياسية، التي جاءت عام 2011، حتى يتم إفراز نخبة سياسية جديدة لا تسيطر عليها هواجس الولاءات أو التعويضات. وسينبثق عن هذا المدخل، حسب قوله، حدوث تغييرات في التصوّرات الاقتصادية بشكل يواكب ما تشهده البلدان المتقدمة.
إسماعيل عزام