تصدع في البيت الأوروبي بسبب تباين المواقف من حرب ليبيا
٢٤ مارس ٢٠١١بعد أربعة عقود من تغييب الحريات الشخصية والقمع تحت حكم القذافي، انطلقت هَبَّة ثوار ليبيا، وأعلنت مدنها كسرها لعصى طاعة "ملك ملوك إفريقيا" الواحدة تلو الأخرى، بدءا ببنغازي ذات التاريخ في معارضة النظام الليبي. في داخل ليبيا وخارجها ازداد طابور المنشقين عن نظام القذافي عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، ما جعله يترنح وسط انتقادات دولية لتعامله الدموي مع الخارجين عليه.
لكن الخارجين على نظام القذافي سرعان ما شكلوا مجلساً انتقالياً، يأخذ على عاتقه "ضمان سلامة التراب الوطني والمواطنين وتنسيق الجهود الوطنية لتحرير بقية ربوع الوطن" والإعداد لمرحلة ما بعد القذافي من خلال "الإشراف على انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يطرح للاستفتاء الشعبي"، كما جاء في بيانه التأسيسي.
ويتكون المجلس من ثلاثين عضواً، يمثلون كافة مناطق ليبيا وشرائح شعبها. وهؤلاء الأعضاء، كما يقول المحلل السياسي الألماني شتيفان بوخن الذي كان حتى وقت قريب متواجداً في بنغازي، هم حقوقيون وسياسيون وناشطون معارضون للقذافي. وتنص وثيقة تأسيس المجلس على أن يقوم أعضاؤه باختيار رئيس له، ويبدو أن هذا الأمر بالتحديد أثار لغطاً في البداية على شرعية هذا المجلس كممثل للمعارضة الليبية، كما يقول بوخن. إذ تم اختيار وزير العدل المستقيل مصطفى عبد الجليل رئيسا له.
المنشقون عن القذافي- محل خلاف
"هذا الاختيار لم يثر خلافات بين سكان المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة فحسب، بل وأيضاً داخل قوى المعارضة وحتى بين أعضاء المجلس نفسه. لكن في النهاية تم الاتفاق على ترؤس عبد الجليل المجلس". فصحيح أن عبد الجليل كان من أول المنشقين عن نظام القذافي، إلا أنه كان حتى أمس قريب من أركان هذا النظام، فالمعلومات المتاحة عن عبد الجليل، الذي أصبح وزيراً للعدل (أو كما يُقال في ليبيا: أميناً عاماً للجنة الشعبية العامة للعدل) عام 2007، تُشير إلى أنه تقلد مناصباً عدة في المؤسسة القضائية الليبية منذ عام 1978، وهي المؤسسة التي كانت تحاكم المعارضين للقذافي طوال عقود.
وبحسب الخبير الألماني فإن الذي رفع من شعبية عبد الجليل هو ما أُشيع في بنغازي عن أنه كان يعمد إلى تغيير بعض الأحكام الصارمة بإعدام المعارضين، خلال سنوات عمله وزيراً للعدل. لكن القاسم المشترك المتمثل في الإطاحة بالقذافي جمع في النهاية بين المنشقين عن النظام والمعارضين له حتى قبل انطلاق "ثورة 17 فبراير" من أجل هذه الغاية.
وعلى الرغم من أن المجلس يتكون من ثلاثين عضواً، إلا أنه لم يتم حتى الآن الكشف سوى عن أسماء ثمانية من أعضائه، فلم يتم حتى اليوم الكشف عن بقية الأسماء "لأسباب أمنية"، كما قال عبد الجليل لحظة الإعلان عنه.
ويرى بوخن في حديث مع دويتشه فيله أنه لا يجب اقتصار أعضاء المجلس على المنشقين عن نظام القذافي، "فهناك على سبيل المثال أيضاً عبد الحفيظ غوقة، نائب رئيس المجلس والناطق باسمه، الذي طالما دافع لسنوات طويلة عن سجناء سياسيين كانوا معتقلين في سجون القذافي". ويؤكد بوخن أن "النجاح الأكبر للمجلس هو حصوله على الاعتراف الدبلوماسي من قبل فرنسا، الأمر الذي كان تمهيداً للعملية العسكرية لوقف زحف قوات القذافي على المدن التي يسيطر عليها الثوار".
خطوة... أم هروب إلى الأمام؟
لكن هذا الاعتراف في المجلس كان مدعاة للاختلاف في السياسة الخارجية الأوروبية، بل "وقاد أيضاً إلى تصدع المحور الألماني-الفرنسي، الذي طالما اتسم بالوحدة في قرارات مهمة بالنسبة إلى السياسة الخارجية لأوروبا، مثل المساهمة في التدخل العسكري في أفغانستان والامتناع عنها في حرب العراق 2003، على الرغم من هذه الأزمة هي الأقرب من الناحية الجيوستراتيجية مقارنة بالعراق وأفغانستان"، كما يقول بوخن.
ألمانيا لم تعترف بالمجلس، "معللة ذلك بعدم معرفتها الكافية بتوجهاته وشخصياته". لكن بوخن يرى أن هذا التبرير غير كاف، "فأعضاء المجلس البارزين معروفون دولياً، وهم من الناشطين طوال سنوات في المعارضة ضد القذافي والدفاع عن حقوق الإنسان وإيجاد حقوق مدنية وسياسية للشعب الليبي. كما أن أهدافهم تتمثل في تأسيس دولة في ليبيا تستند إلى سيادة الشعب".
وفي الوقت الذي يرى فيه شتيفان بوخن أن اعتراف فرنسا بالمجلس لم يأت متعجلاً، يرى الخبير الألماني في الشؤون الليبية فيرنر روف خلاف ذلك. ويرى روف أن موقف ألمانيا المتحفظ صحيح، لأنه لا تُعرف هوية واضحة لهذا المجلس. ويضيف روف بالقول: "أعتقد أن من التسرع أن تقدم فرنسا على الاعتراف بالمجلس الانتقالي الوطني كممثل للشعب الليبي، كما أن هذا الأمر ينطوي على مفارقة كبيرة، إذا ما عرفنا أن ساركوزي كان يدعم دكتاتوريات شمال إفريقيا حتى لحظاتها الأخيرة"، مشيراً إلى أن من المبكر للغاية الاعتراف بحكومة ما زالت تسمي نفسها "مجلساً" و"أن هذا الأمر يمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية لدولة، لا يمكن تبريره حتى بقرار مجلس الأمن رقم 1973".
ويبدو هنا أن فرنسا وجدت في الأزمة الليبية تعويضاً لما فقدته خلال تعاملها مع "ثورة الياسمين"، فقد اختارت -على لسان وزيرة خارجيتها السابقة ميشيل آليو ماري على الأقل- الوقوف إلى جانب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي حتى اللحظة الأخيرة. وهذا ما انعكس ميدانياً في المدن الليبية الخاضعة لسيطرة المعارضة، فشتيفان بوخن يشير إلى أنه خلال تواجده في بنغازي طالماً واجه انتقادات لموقف ألمانيا المتحفظ من المجلس، على عكس الموقف الفرنسي الذي حظي بإعجاب شعبي، ما سيكون له بالتأكيد آثار على رسم ملامح علاقات ليبيا ما بعد القذافي بكل من فرنسا وألمانيا.
عماد مبارك غانم
مراجعة: منصف السليمي