تسريبات قد تغير بوصلة معركة رئاسة بوتفليقة
٢٨ فبراير ٢٠١٩في عز النقاش حول استمرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في الحكم، بدأت حرب كشف المستور تتوالى، ففي يومين، صدر تسريبان، واحد من فرنسا، والثاني من داخل الجزائر. الاثنان معاً يحملان رسائل جد سلبية عن بوتفليقة ومعسكره، بما يزيد من حالة الرفض الواسعة للعهدة الخامسة، ويدعّم وجهة نظر المعارضين لها بقرائن جديدة.
التسريب الأول يخصّ ما نشرته مجلة "لوبس" الفرنسية من وثائق سرية لأجهزة الاستخبارات المحلية، تعود من خلالها إلى السنوات الأولى لبزوغ نجم بوتفليقة في السياسة، وكيف استطاع الوصول إلى رتبة الرجل الثاني في النظام الجزائري. بينما نُسب التسريب الثاني إلى مكالمة هاتفية بين عبد المالك سلال، مدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة، مع علي حداد، رجل الأعمال المقرّب من النظام، تضمن جزءاً من خططهما لتجاوز حالة الاحتجاجات (لم يتم تأكيد صحة التسريب رسميا).
بيدَ أن هذه التسريبات ليست عملاً "نضالياً" بالضرورة، فالجهات التي سربتها تملك نفوذاً في الدولتين الفرنسية والجزائرية. وتُثير التسريبات عدة أسئلة حول أسباب اختيار جهات في فرنسا لهذا التوقيت بالذات لكشف بعض الخبايا السلبية من حياة بوتفليقة، وهل هي رغبة من باريس لإنهاء شراكتها مع نظامه. الأسئلة ذاتها تطرح حول هوية مسرّب المكالمة، وهل هي من عمل جهة جزائرية نافذة لأجل خلط أوراق المرّشحين، وتأكيد أنه داخل دواليب النظام، هناك من يرفض استمرار بوتفليقة.
تسريب الخارج يعود إلى شباب بوتفليقة
تقول وثائق الاستخبارات الفرنسية، وحسب ما نقله موقع 'كل شيء عن الجزائر' عن مجلة 'لوبس' الفرنسية، إن بوتفليقة كان المحرض الرئيسي على الانقلاب على الرئيس أحمد علي بن بلة بعد تنامي خلافاتهما عندما كان الأول وزيراً للخارجية،. كما كانت باريس تنظر إليه كفاعل أساسي في التعاون بينها وبين الجزائر بعد الاستقلال، فهو يملك "ذكاءً حاداً وطموحا كبيراً" رغم صغره آنذاك في السن، لكن ربما هذا الطموح هو ما دفع رئيسه، الهواري بومدين، إلى التجسس عليه، خاصة وأن علاقة بوتفليقة بزوجة بومدين لم تكن جيدة. وتشير الوثائق إلى دور السفارة الجزائرية في باريس في اغتيال المعارض كريم بلقاسم، لكن لم تربط الوثائق بين بوتفليقة وبين الاغتيال بشكل مباشر.
"لقد أكدت الوثائق كيف بنى بوتفليقة وزارة الخارجية حينها على مقاسه لأجل تحويلها إلى مورد رزق، مستعيناً بأصدقائه وأقربائه" يقول زيدان خوليف، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس، مضيفاً لـDW عربية، أن بوتفليقة "كان يتحمل المسؤولية السياسية على الأقل في اغتيال كريم بلقاسم". ويبرز خوليف أن ما نُشر في الوثائق ليس جديداً، وهناك إشارات من علي كافي، رئيس الجزائر ما بين 1992-1994، إلى مضمونها، وذلك عندما كان كافي رافضاً لأن يعمل بوتفليقة تحت إمرته، فضلاً عن حكم قضائي في فرنسا ضد بوتفليقة في قضايا مالية، وفق قول خوليف.
ورغم رحيلها الرسمي عن تراب الجزائر، إلّا أن مراقبين يؤكدون أن فرنسا احتفظت بالكثير من نفوذها في البلد، خاصة في العلاقةِ مع عدد من رموز النظام، وذلك رغم استمرار خلاف البلدين في قضايا جوهرية تعود بالأساس إلى الحقبة الاستعمارية. لذلك لا يُستبعد أن ترتبط تسريبات الوثائق الأخيرة بأهداف سياسية تؤسس عليها باريس، أو جزءٌ من صناع قرارها، لمرحلة جديدة في التعامل مع الدولة الجزائرية، خاصة وأن نشر الوثائق يأتي في عزّ حراك جماهيري مرّشح لمنع بوتفليقة من عهدة خامسة.
"العلاقة بين فرنسا وبوتفليقة كانت مميزة فيما مضى، لأن خزائن الجزائر كانت مملوءة، وكان هناك تدفقٌ للمال سمح لفرنسا أن تكون المصدّر الأول للجزائر، لكن الحال تغيّر في السنوات الأخيرة" يقول خوليف، متحدثاً عن أن الأزمة الاقتصادية في الجزائر أثرت سلباً على شراكة الطرفين، وهو ما يجعل فرنسا تتخوّف من أن استمرار بوتفليقة سيجعل الأمور تزداد سوءاً، وبل وتستمر باستقبال الملايين من الجزائريين الراغبين في الهجرة. ويستدل خوليف على كلامه حول برود علاقة الجانبين، بتغيير بوتفليقة لمكان علاجه من مصحة غرونوبل الفرنسية إلى جنيف السويسرية.
تسريب ضد رجال بوتفليقة في الداخل
في التسجيل الهاتفي المسرّب، يتحدث علي حداد، عن مخاوف مسؤول نافذ (يحمل اسم اسماعيل) بشأن استمرار المظاهرات الرافضة لترشيح بوتفليقة، ويقول إنه يجب الصمود حتى تاريخ إيداع ملف ترشيحه رسمياً، بينما يظهر عبد المالك سلال، رئيس الوزراء الأسبق، وأحد أكبر مناصري الرئيس بوتفليقة، مطمئناً لعدم تأثير المظاهرات على الوضع، كما يقتنع أنها لن تستمر، وبأن جهاز الدرك سيرّد بقوة إذا ما انحاز المتظاهرون للعنف، كما سيرد فريق سلال بدوره بأنّه سيطلق النيران إن تعرض المتحدث لأيّ اعتداء. وقد انتقد سلال في التسجيل الصوتي أداء الوزراء وكذا بعض الشخصيات المقربة في طريقة تدبير الاحتجاجات.
مباشرة بعد انتشار التسريب، نشرت "يورونيوز" خبراً عن إقالة مسؤول في الاستخبارات الجزائرية، وهو ما يعطي الانطباع الأوّلي أن الشريط المسرّب حقيقي. يقول خوليف إن الشريط خرج إلى العلن لأجل أهداف سياسية من طرف جماعة داخل الدولة هي كذلك ضد العهدة الخامسة لبوتفليقة، إذ تريد هذه الجماعة تحييد بوتفليقة، لكنها ليست مع الشارع: "هي تحاول إخافة الشعب بالتلميح إلى سيناريو العشرية السوداء" يقول خوليف، موضحاً أن ما جرى في تسعينيات القرن الماضي تحوّل إلى شماعة تُستخدم في كلّ وقت لمنع الاحتجاج.
ومن رسائل التسريب كذلك، وفق رأي خوليف، وجود "تشرذم في صناعة القرار بالجزائر، وتذمر داخل السلطة السياسية، وكذا داخل الجيش ما بين القيادة وبين أصحاب الرتب المتوسطة، حيث يسود تخوّف بين هؤلاء من أن يتحملوا تبعات ما يحدث". وفضلا عن أسماء شخصيات أخرى نافذة داخل البلاد (وردت في تقرير سابق)، يضيف خوليف اسم الناصر بوتفليقة (اسمه الحقيقي عبد الرحيم بوتفليقة) الشقيق الأصغر للرئيس، وهو ما يؤكد ارتفاع وتيرة تعقّد الوضع في البلاد، خاصة وأن الرئيس بوتفليقة لم يعد للبلاد منذ إعلان سفره للخارج لأجل العلاج، ولم يتبق له لإيداع ترشيحه رسمياً إلا بضعة أيام.
لكن أمام كلّ هذا الصراع الخفي بين أقطاب السلطة في الجزائر، سواء بين الجماعة المساندة لبوتفليقة (تضم شخصيات قوية) والجماعة الأخرى التي يتحدث عنها خوليف، يظهر جزء كبير من الشعب الجزائري مصمماً على الاحتجاج، ليس فقط في الشارع، بل كذلك عبر الشبكات الاجتماعية، حيث تسود السخرية من رموز النظام، ومنهم رئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، الذي اعتمد على نظرية المؤامرة للرد على نداءات الاحتجاجات، ما يجعل التحديات، بين التسريبات والرفض الشعبي واستخدام الانترنت، تتعاظم في وجه سلطة يحار كثير من الناس في تعريف من يتزعمها.
الكاتب: إسماعيل عزام