ترانس نساء عربيّات، أو المتحوّلات جنسيًا، ومعاناتهن في برلين
٥ يوليو ٢٠١٧قبل أيام، التقيت صدفة بمجموعة "ترانس نساء" عربيّة في برلين، وسأستخدم هذا المصطلح الذي يشعرن أنه الأقرب لوصفهن، حيث تقترب كلمة "ترانس" في هذا السّياق أكثر إلى تعبير ما وراء أو ما بعد الجندر، على الرّغم من أن المصطلح الأكثر استخدامًا لترانس جندر بالعربيّة هو متحوّل/ متحوّلة أو متغيّر/متغيّرة جنسيًا.
وفقًا لتعريف منظمة GLADT وهي منظمة ألمانية غير حكومية تهتم بقضايا المثليين والمتحولين جنسيا ومكافحة التمييز (ضدهم): "يعرّف/تعرّف "ترانس جندر" بهويّة جنسيّة أو هويّات جنسيّة مختلفة عن الجنس الذي تمّ تعيّنه عند الولادة، علمًا بأنه ليس من الضروريّ أن يحدد الجنس الذي ينجذب إليه". والجدير ذكره أن القانون الألمانيّ ينص على حماية المثليّين/ات والمتحولين/ات جنسيًا ويرفض أي تمييز بناءً على الميول أو الهويّة الجنسيّة.
تعيش المجموعة التي التقيت بها في برلين منذ حوالي عاميْن، وهن لاجئات قادمات من مدن عربيّة تعيش دمارًا منذ سنوات. على الفور، أخذ حديثنا منحى الحرية الفرديّة والشّعور بالأمان الفرديّ لكلّ منهن وكذلك الجماعيّ لممارسة هويّتهن الذاتيّة في برلين مقارنة ببلادنا.
بدأن يسردن لي قصّة حدثت معهن قبل فترة في برلين، حين كن يقفن في محطّة باص، فوصفت إحداهن الحادثة: "كنا نقف ننتظر الباص عند محطة قريبة من البيت، كنا أنا وصديقاتي ومعنا شباب أيضًا ونتحدث العربيّة طبعًا. فجأة جاءت باتجاهنا مجموعة شباب وسألونا بالعربيّة ماذا نفعل هنا؟ أحدهم صرخ بوجهنا بعنف: ما بصير تعملوا بحالكوا هيك! إنتو عرب وليش بتعملوا هيك!.. وهكذا". وأضافت: "بالتالي، نخرج فقط إلى المناطق التي بإمكاننا أن نحكي فيها بلغتنا، دون أن يُفسح المجال لأحد لأن يتحدث إلينا. لكن، كلما أردنا أن نخرج من البيت، لأي سبب كان، ننتظر أوّل الشهر، كي يتوفّر لدينا النقود ويكون بإمكاننا أن نتحرك بالتاكسي ولا نضطر لأن نتحرك بالمواصلات العامّة، كالباصات أو المترو، لأننا نخاف".
تكررت كلمة الخوف كثيرًا خلال حديثنا، وفيما بعد حين واصلت الحديث فقط مع إحداهن، هذا الشّعور يعيش في داخل كل واحدة منهن، الشّعور الذي لا يأتي مرة بالأسبوع أو بالشهر أو حتى باليوم الواحد فقط، إنما الخوف المتواصل والمستمر من ما هو خارج البيت، في الشارع والفضاء العامّ، لكونك أنت من أنت.
يهاجر الإنسان قسرًا أو اختيارًا، سواء للظروف التي تعيشها بلاده، و/أو بحثًا عن الأمان في أماكن أخرى، وكلّ واحدة من "ترانس نساء" التي تحدثت معهن قليلًا، كانت الهجرة واللجوء إلى مكان جديد، مثل برلين في هذه الحالة، بحثًا عن أمان ما تستطيع فيه أن تمارس حياتها بطبيعيّة كباقي البشر. تقول إحداهن: "لم أتوقع أن أعيش في نفس قالب الخوف الذي عشت فيه في بلدي قبل أن أصل إلى برلين، كنت أتوقع أنه عندما أخرج بلباس امرأة وبكعبٍ عالٍ ومكياج، أن أسمع كلامًا ضدي كحد أقصى. إلّا أني أخاف أن أدخل مطعمًا عربيًا قريب من البيت، لأني أخاف من الناس.. ولا أمرّ بجانبه، بل أحاول دائمًا أن أمشي طريقًا التفافيًا تحسبًا للمكان".
يدور حديثي مؤخرًا، ومن خلال مقالاتي هُنا ومن دافع المسؤوليّة، عن الحريّة والفضاء العامّ، عن الحريّة الفرديّة للإنسان بأن يختار أن يكون ما يشاء وما يراه مناسبًا في حياته، عن المجتمع وعن القوانين، وبالطبع حديثي هذا متعلّق بالجانب الإنسانيّ للحريّة، المتعلّق بشأن الفرد تجاه نفسه وبالحماية القانونيّة المتوفرة في حال احتاجها، وعلى أمل الحماية الاجتماعيّة أيضًا، خاصّة من المجتمعات التي ينتمي إليها. إلّا أن أسوأ ما في الأمر هو عندما يرى بعض أفراد مجتمعاتنا أن هذه الحريات تهدد كيانه وذكوريّته، ويرى بأن من حقه أن يعطي رأيه أو يفرضه فيما يتعلّق بشؤون الآخر وحياته الشخصيّة، وكأن هناك من أعطاه السلطة والشرعيّة بأن يتدخل في حياة امرأة ترتدي ما تشاء في الشّارع، أو ترانس امرأة ترى بنفسها وروحها كامرأة، لأنها عربيّة أوّلًا، ولأن شكلها وحضورها يضر بالعادات والتقاليد العربيّة، كما يفسرها هو. وكأن كلّ مآسينا المستمرة التي عشناها ونعيشها، تصبح فجأة هي ذنب شخص أراد أن يكون ما يشاء! أو ببساطة، اختار أن يكون صادقًا مع كيانه الحقيقيّ.
في حديث مع صديقة مقيمة في برلين، مختصّة في دعم وتقديم نصائح والتوعيّة الاجتماعيّة والسّياسيّة إزاء التمييز الذي يعاني منه المثليّين/ات والمتحولين/ات جنسيًا، قالت: "لا من مكان آمن للترانس جندر، لا مكان في العالم يشعرون ويشعرن فيه بالأمان. بالرغم من أنني لا أشعر أن هنالك مدينة أخرى مثل برلين تمنح لي شعور الأمان فيها كفرد، لأنني أعتقد بأنه عندما يكون المجتمع قوي اقتصاديًا وسياسيًا، يصبح التميّيز أخف، لكنه لا ينعدم تمامًا".
تعيش كل ترانس امرأة ملاحقة مجتمعيّة دائمة، كما عائليّة غالبًا (وهي الأصعب نفسيًا في كثير من الأحيان، لأن رفض العائلة هو الرّفض الأوّل/ رفض البيت)، فقط هنّ يعرفن تمامًا ما تمرّ به كل واحدة منهن، وتعرف العربيّة منهن أكثر ما تمرّ به ترانس امرأة من بلادها، من مكان تحضر فيه – للأسف – الذّكوريّة بقوة في الشّأن الشخصيّ والفضاء العامّ، في الشّارع والقوانين، حتى الهروب إلى البيت، لا يسعفهن أحيانًا.
في ظلّ هذه الملاحقة الاجتماعيّة التي تعمّ بلادنا المتألمة أصلًا، الكثير من ترانس نساء يبحثن عن أماكن يستطعن فيها أن يشعرن بأمان وحماية بأن يمارسهن هوياتهن الفرديّة، فالكثير منهن يخترن مدنًا أو بلادًا بعيدة، كألمانيا، تنص قوانينها وبنود دستورها على حماية اللاجئين إليها ممن يتعرضون للاضطهاد أو التمييز في بلدانهم، لأنهم مثليّون/ات ومتحولون/ات جنسيًا. "وين منلاقي أمان، منروح..."، تقول إحداهن. فتصبح معادلة الأمان مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالهجرة المستمرة.
مؤلم تخيّل ما يمكن أن تمرّ به كلّ ترانس امرأة عمومًا وعربيّة خاصّة، وما يمرّ به كل فرد تُقمع حرياته الفرديّة واختياراته الشّخصيّة. ومؤلم، لكنه ضروريّ بالمقابل، أن نواصل التذكير بأن حرية المرأة والمثليّين/ات والمتحولين/ات جنسيًا هي عامود أساسي نحو إعادة الاعتبار للإنسان وحريته وحقوقه. هنالك مجتمعات خطت وما زالت تخطو طريقها نحو هذا الدرب، على أمل أن يأتي اليوم، أن تتقبل مجتمعاتنا وتحمي الحريات الفرديّة، أينما كنا في العالم.. أو ببساطة، فلتستجيب مجتمعاتنا إلى مطلبهن الأساسيّ، الترانس نساء في هذه الحالة، بأن يتركوهن وشأنهن.