يعمل الاتحاد الأوروبي حاليا على تعديل سياسته تجاه بكين بهدف "تقليص تبعيته الاقتصادية لها ودفعها إلى سياسة أكثر تشددا إزاء موسكو في ملف أوكرانيا". ومما يعنيه هذا الطرح تعزيز قدرة الاتحاد على مواجهة المنافسة الاقتصادية الصينية العاتية. وهو الأمر الذي يعكس موافقة وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم الأخير في ستوكهولم على وثيقة تتعلق بالخطوط العريضة للسياسة الجديدة التي قدمها مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل. وقال بوريل بهذا الخصوص إنه يتعين على دول الاتحاد أن تكون أكثر اتحادا "إزاء صعود الصين كقوة عظمى" وعلى ضوء اشتداد المنافسة بينها وبين الحليف الأساسي لأوروبا، أي الولايات المتحدة. وسبق الإعلان عن الوثيقة صعود التوتر مجددا بين بكين وبروكسل بعد اقتراح تقدمت به المفوضية الأوروبية بفرض عقوبات على 8 شركات صينية بتهمة خرق العقوبات ضد روسيا وتصدير مكونات إلكترونية وتقنيات حساسة إليها. وعلى ضوء ذلك حذر وزير الخارجية تشين غانغ من أن "بلاده سترد بالمثل في حال تبني هذا الاقتراح. وسبق الاقتراح الأوروبي المذكور تقليص مجالات التعاون وفرض عقوبات على مسؤولين ومؤسسات صينية بسبب اضطهاد أقلية الأويغور والاتهامات بالتجسس.
أين السياسة من أهمية العلاقة الاقتصادية؟
هذا على صعيد الخطط، أما على أرض الواقع فإن إلقاء نظرة أولية على تشابك وتنوع العلاقات الاقتصادية الأوروبية الصينية يشي بصعوبة تقليصها. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى اعتماد كل من الطرفين على الآخر بشكل أوسع مما يعتقده الكثيرون. فالصين على سبيل المثال أضحت وفقا لمعطيات وكالة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية أهم شريك اقتصادي للاتحاد الأوروبي بحجم تبادل تجاري يزيد على 1.41 تريليون دولار، أو ما يعادل ثلث حجم التجارة الخارجية لدول الاتحاد مجتمعة.
أما الولايات المتحدة فقد تراجع مركزها إلى المرتبة الثانية بحجم يصل إلى 1.25 تريليون دولار، أي ما يعادل أقل من 30 بالمائة. وإذا ما القى المرء نظرة على السلع التي تصدرها الصين إلى أوروبا فإنها تشمل كل شيء تقريبا بدءا بالآلات وانتهاء بالمواد الغذائية مرورا بوسائط النقل والمواد الأولية ومصادر الطاقة والمكونات الإلكترونية وغيرها. وبالمقابل أضحت الصين من خلال وارداتها من دول الاتحاد على صعيد السلع والاستثمار أحد أهم محركات النمو في صناعات وصادرات أوروبية حيوية مثل صناعة السيارات الألمانية ومكونات الطاقة الشمسية ووسائل اتصال وتقنية المعلوماتية.
دروس الاعتماد على روسيا في مصادر الطاقة
حتى أيام حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وقبل الحرب في أوكرانيا كان التعاون الاقتصادي مع الصين مرحبا به أوروبيا وخاصة في أوساط الاقتصاد والشركات الألمانية الكبيرة التي أضحت الصين أهم شريك تجاري لها. وكانت حكومات أوروبية عديدة وعلى رأسها حكومة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل تدعم ذلك بحكم المصالح المشتركة. أما اليوم فإن جل المسؤولين الألمان والأوروبيين يرون بأن عمق وتشابك العلاقات الاقتصادية بين نظامين مختلفين في الايدلوجيا والقيم والمواقف السياسية ليس في مصلحة أوروبا. ويذهب المستشار الألماني أولاف شولتس إلى حد اعتبار ذلك "خطرا على مستقبل القارة"، لاسيما على ضوء نتائج ودروس ومخاطر الاعتماد على روسيا بشكل أساسي في مصادر الطاقة قبل الحرب. كما أن توجه الصين أكثر فأكير للاعتماد على منتجها المحلي في إحلال الواردات يغذي المخاوف من أن العلاقة المذكورة ذات مستقبل محفوف بالمخاطر أكثر من المنافع. وهو الأمر الذي تنفيه بكين وترى فيه سياسة تتناقض مع تأكيد الغرب على الليبرالية والمنافسة في العلاقات الاقتصادية الدولية.
مشاكل تواجه الاتحاد في سياسته إزاء الصين
انطلاقا من المخاوف التي يمكن أن تترتب على العلاقات الاقتصادية القوية مع الصين ترتفع الأصوات الأوروبية المطالبة بتقليل الروابط الاقتصادية معها، لاسيما وان الولايات المتحدة تضغط في هذا الاتجاه. كما أن الحرب في أوكرانيا دفعت الاتحاد الأوروبي إلى رفع شعار تبني سياسات اقتصاديةتقوم على تنويع مصادر الإمداد وأسواق التصدير على صعيد مختلف السلع وعلى رأسها مصادر الطاقة ومواد أولية أساسية للصناعة والمكونات الإلكترونية والبطاريات ووسائل الاتصال والنقل وغيرها. ومن الأفكار التي يتم طرحها في هذا السباق ضرورة تمكين الشركات الأوروبية وعلى رأسها الألمانية من التوسع في الإنتاج والبيع داخل السوق الأوروبية، على حد تعبير بيورن فينكي المحلل في جريدة سوددويتشه تسايتونغ الألمانية. وهو الأمر الذي سيعني تقليص تبعيتها للاستيراد والتصدير من وإلى السوق الصينية. غير أن المشكلة التي ستواجه مثل هذا التوسع تكمن في ارتفاع تكاليف الإنتاج لإن الاتحاد الأوروبي فقير بالمواد الأولية ومصادر الطاقة التي يتم استيرادها بأسعار لا تتوقف عن الارتفاع منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وعلى ضوء التضخم وارتفاع الأسعار سيكون من الصعب على المستهلك في السوق الأوروبية الإقبال على الشراء بالشكل الذي يعوض عن أسواق خارجية كالسوق الصينية.
وفي سباق متصل لا ننسى ان الإرادة السياسية لتعزيز السوق الداخلية الأوروبية المشتركة غير متوفرة بالشكل المطلوب بحكم تناقض المصالح الوطنية بين بين دول الاتحاد عندما يتعلق الأمر مثلا باعتماد سياسات استثمار أو سياسات مالية أو إجراءات بيروقراطية موحدة. فقد قررت الحكومة الهنغارية مؤخرا على سبيل المثال تعزيز علاقاتها مع شركة "هواوي" الصينية رغم الضغوط الأمريكية والأوروبية لتقليل الروابط معها. وفي ألمانيا رحب ممثلو الصناعة الألمانية باستحواذ مجموعة كوسكو الصينية الحكومية على جزء من محطة حاويات بميناء هامبورغ بعد التردد في البت بذلك أكثر من مرة من قبل الجهات الحكومية المعنية التي ترفض مثل هذا الاستحواذ.
الاتحاد وضرورات تغيير سياساته
رغم صعوبة الابتعاد عن الصين في المجال الاقتصادي والخلافات الأوروبية الداخلية بشأن التعامل مع بكين يبدو الاتحاد الأوروبي عازما على المضي في سياسته الاقتصادية الجديدة. ولا يقف وراء ذلك تبعات الحرب في أوكرانيا وحسب، بل أيضا التوترات المتزايدة في بحر الصين مع الولايات المتحدة وحلفائها بسبب تايوان، ولا ننسى في سياق ذلك إلى أن العالم يقف على أعتاب عالم متعدد الأقطاب بدلا من عالم أحادي القطب هيمنت عليه الولايات المتحدة لعقود. ومما لا شك فيه أن الصين وحلفاء لها مثل روسيا ودول أخرى من مجموعة "بريكس" ستشكل أحد أهم هذه الأقطاب. وهو الأمر الذي سيحتم على الاتحاد الأوروبي وحلفائه في مجموعة السبع إعادة تموضع اقتصادية لمواجهة المنافسة الصينية في الأسواق العالمية. السؤال هنا، ما هي التبعات المحتملة لذلك على العالم العربي؟
العالم العربي بين أوروبا والصين
مما لا شك فيه أن العالم العربي سيبقى شريكا مهما للاتحاد الأوروبي بحكم الجوار والموقع الجيوسياسي والمصالح الاقتصادية والعلاقات التاريخية. ومع توجهه الاتحاد الأوروبي إلى تنويع مصادر طاقته بعيدا عن روسيا فإن علاقته تتجه إلى مزيد من التوسع مع دول كالجزائر وقطر والإمارات والمغرب. ومما يعنيه ذلك استيراد المزيد من النفط والغاز من هذه الدول. أما على صعيد التصدير فإن موقع الصادرات الأوروبية في الأسواق العربيةإلى تراجع لصعوبة المنافسة مع البضائع الصينية والآسيوية والبرازيلية فيها. وهو الأمر الذي يعكسه على سبيل المثال تراجع الصادرات الألمانية أو مراوحتها مكانها خلال السنوات القليلة الماضية مع دول عربية وازنة كالسعودية والإمارات خلال السنوات القليلة الماضية. وللمقارنة فإن حجم التبادل التجاري العربي الصيني عام 2021 وصل إلى 330 مليار دولار مقابل أقل من 42 مليار يورو للتبادل التجاري العربي الألماني.
ويبدو أن الغلبة مستقبلا ستكون للصين، لأن تراجع حضور سلعها في السوق الأوروبية يعني اشتداد حدة منافستها على الأسواق العربية التي يمكن أن تكون بديلا عن السوق الأوروبية بالنسبة للكثير من السلع الصينية. ويعزز الحضور الصيني في الأسواق العربية الزخم السياسي الداعم لذلك على أعلى المستويات. ويعكس ذلك على سبيل المثال القمم الصينية العربية المتكررة التي استضافت السعودية ثلاثة منها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2022 . وسيعطي التقارب السعودي الإيراني برعاية بكين زخما جديدا لهذا الحضور. في هذه الأثناء لا تشهد العلاقات العربية الأوروبية تطورا سياسيا ملحوظا يدعم زيادة حجم التبادل التجاري، الذي ما يزال قويا ومتشعبا.
فرصة العالم العربي لتحسين حضوره العالمي
وفي الخلاصة فإن المنافسة على الأسواق العربية بين القوى الاقتصادية العالمية الحالية والقوى الصاعدة ستكون أكثر حماوة وقساوة. ويعزز ذلك حقيقة أنه هذه الأسواق ما تزال أسواقا للبيع والاستهلاك أكثر منها للإنتاج والإبداع. ويبدو أن مستقبلها في المدى المنظور سيبقى على هذا المنوال، لاسيما وأن الخطط العربية لتنويع مصادر الدخل مثل " رؤية السعودية 2030 " مطروحة في الإطار الوطني، وليس في إطار يؤدي إلى تكامل إقليمي يوحد الأسواق ويعزز من قدرتها على جذب استثمارات أجنبية تساعد على توطين الصناعة والتكنولوجيا العالية. عدا ذلك فإن هناك فرصة لتغيير هذا التوجه بالتنسيق مع دول وازنة كالعراق ومصر والإمارات كي يستفيد العالم العربي من تنافس القوى الاقتصادية العالمية القادم للحصول على أكبر قدر ممكن من المنافع. ولعل من أبرز هذه المنافع العمل على بناء صناعات تحويلية تحوله من منطقة مصدرة للمواد الأولية إلى أخرى تدخل في سباق المنافسة على المنتجات الصناعية والخدمات ذات القيمة المضافة العالية.
إبراهيم محمد