من هو السوري الأكثر تضررا من قانون قيصر الأمريكي؟
١٤ يونيو ٢٠٢٠أردت قبل فترة ليست ببعيدة إرسال دواء وبعض الحاجات الشخصية الضرورية من برلين إلى والدتي المقيمة في اللاذقية. في مكتب البريد البرليني أفادتني موظفة لطيفة أن إرسال أي شيء حاليا إلى سوريا يتطلب بيان جمركي بسبب العقوبات الأوروبية المفروضة على هذا البلد الذي تحبه كثيرا، حسب قولها.
بعد يومين من الذهاب والإياب تخللها الكثير من تعطيل أشغالي أحضرت البيان الجمركي، وتم إرسال الطرد الذي عاد بعد أكثر من شهرين إلى برلين ليطلب البريد مني استلامه وإبداء الأسف على عدم التمكن من تسليمه إلى عنوان والدتي، لأن مؤسسة البريد السورية مشمولة أيضا بلائحة العقوبات الأوروبية.
هذه العقوبات إلى جانب العقوبات الأمريكية والغربية الأخرى السارية منذ عام 2011 والتي ينبغي أن تطال الرئيس السوري بشار الأسد وحكومته وعشرات الكيانات السياسية والاقتصادية التابعة لها، لا تطال في الواقع هذه الحكومة بقدر ما تطال الناس العاديين أمثالي. وفي الحقيقة لا يكاد يوجد سوري ما يزال يعيش في وطنه لا يعاني من هذه العقوبات بشكل أو بآخر. ولا يغير من حقيقة ذلك الجدل الدائر حول مدى جدوى هذه العقوبات بين المؤيدين والمعارضين لها.
قانون قيصر يشعل نار العقوبات أكثر فأكثر
والآن يأتي ما يُسمى "قانون قيصر" الأمريكي ليوسع هذه العقوبات، بحيث لا تقتصر على الأشخاص والكيانات التابعة للحكومة السورية وحسب، بل أيضا حميع الجهات التي تتعامل معها من مختلف أنحاد العالم وفي مقدمتها الشركات الروسة والإيرانية. ومع دخول هذا القانون في 17 الشهر الجاري يونيو/ حزيران 2020 حيز التنفيذ نكون أمام حالة فريدة من عقوبات شاملة، ربما لم يعرف العالم مثيلا لها منذ نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في ثمانينات القرن الماضي.
يتهم قانون قيصر الحكومة السورية "باتكاب جرائم قتل وتعذيب بحق المعتقلين والموقوفين بالاستناد إلى آلاف الصور التي سربها مصور عسكري سابق اسمه الرمزي قيصر"، أما الحكومة السورية على لسان وزارة العدل فقد نفت هذه التهمة مرارا ووصفت الصور بأنها "مفبركة". وتفيد نظرة سريعة على نص القانون الأمريكي الذي وقعه الرئيس ترامب أن الغاية منه تحقيق عدة أهداف من أبرزها "حماية المدنيين السوريين من ظلم حكومة الرئيس الأسد وقمعها لمواطنيها وتعديل النظام السياسي القائم حاليا ".
غير أن الواقع والوقائع تقول بأن عقوبات قانون قيصر لا تعاقب الحكومة بقدر ما تعاقب السوريين المقيمين في وطنهم، لأنها تدفع بحياتهم إلى مزيد من الفقر والمعاناة. وتطال هذه المعاناة الجميع بغض النظر عن الجهة المسيطرة على المناطق التي يعيشون فيها سواء أكانت الحكومة السورية أم المناوئين لها حسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2020 تحت عنوان "شبح الجوع يلاحق سوريين أضناهم انهيار الليرة".
ويعد السبب الأساسي في ذلك إلى أن العقوبات والمقاطعة تطال المؤسسات السورية الحيوية التي لا يمكن بدونها تأمين مستلزمات الحياة الضرورية من طعام وأدوية ولباس لأكثر من 20 مليون سوري. ومن هذه المؤسسات على سبيل المثال لا الحصر مصرف سوريا المركزي والمصارف السورية الأخرى وقطاعات النفط والغاز والبريد والخطوط الجوية السورية وشركات تصدير واستيراد السلع والخدمات.
السوريون يفقدون قدرتهم الشرائية
وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأروبي تتحكم بنظام التحويلات المالية عبر العالم، فإن مقاطعتها للنظام المصرفي بما ذلك البنك المركزي وفرض عقوبات عليه في بلد مثل سوريا تعني شل التجارة والصناعة والخدمات فيه، لأن نحو ثلثي تجارته وعلاقاته الاقتصادية كانت قائمة مع الدول الغربية وعلى رأسها إيطاليا وفرنسا وألمانيا حتى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011.
كما تعني أن القسم الأكبر من الدولار والعملات الصعبة الأخرى اللازمة لاستيراد الأغذية والأدوية ومستلزمات الإنتاج لايمكن توفيرها. ومن شأن هذا الحرمان أن يقود إلى انهيار العملة الوطنية وارتفاع جنوني في الأسعار وزيادة نسبة الفقر التي يعاني منها حاليا 90 بالمائة من السوريين، بينما يعاني أكثر من الثلثين من الفقر الشديد حسب منظمة الأمم المتحدة.
ويدل على ذلك ما يحصل لليرة السورية هذه الأيام، إذ فقدت 40 بالمائة من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي في السوق السوداء خلال الأيام العشرة الماضية. وقد تدهور هذا السعر إلى أكثر من 3000 ليرة مؤخرا قبل أن يعود إلى حدود 2000 ليرة مقابل العملة الأمريكية. ومما يعنيه ذلك من ارتفاع جنوني في الأسعار وسط فقدان الأجور والرواتب والمدخرات لأكثر من ثلث قيمتها الشرائية خلال أيام بالنسبة للسلع التي لا تدعمها الحكومة كالسكر والرز والخبز.
المسؤولية لا تقع على قيصر لوحده
بالطبع ليس من العدل أيضا تحميل القانون الأمريكي مسؤولية هذا التراجع الدراماتيكي، غير أن له اليد الطولى في التطورات الأخيرة وفقا لغالبية المحللين والعارفين بالشأن السوري. كما أن المبعوث الأمريكي لسوريا جميس جفري تباهى حسب مصادر متعددة ومطابقة في لقاء عبر الفيديو قبل بضعة أيام: "بأن العقوبات الأمريكية ساهمت في انهيار قيمة الليرة السورية، لأن النظام السوري لم يعد قادرا على إدارة سياسة اقتصادية فاعلة ولا على تبييض الأموال في المصارف اللبنانية بسبب الأزمة التي تعصف بلبنان ايضا".
أما الأسباب الأخرى التي أودت بالليرة السورية ومستوى معيشة السوريين فهي كثيرة ومعروفة لعل أبرزها الدمار الذي ألحقته الحرب بالاقتصاد السوري بدءا بقطاع النفط الذي تحتل آباره قوات أمريكية في الوقت الحالي وانتهاء بالسيطرة على مناطق شرق الفرات وشمال سوريا التي كانت خزان البلاد من القمح والقطن والشعير وغيرها.
ويضاف إلى ذلك تبعات جائحة كورونا والخلافات الأخيرة بين الرئيس الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف والذي أدت إلى الحجز على أموال الأخير وخوف من بقي من رجال الأعمال في سوريا على ثروتهم بشكل يدفعهم إلى تهريب أموالهم خارج البلاد.
أما السبب الأهم من ذلك فيعود إلى الفشل الذريع في الحد من تفاقم الفساد في مؤسسات الدولة على مختلف المستويات وظهور فئة من تجار الحرب الذين يتاجرون بدماء السوريين على اختلاف مشاربهم وأطيافهم في جميع المناطق السورية دون استثناء. وعليه فإن إقالة الحكومة السورية برئاسة عماد خميس وتكليف عرنوس تشكيل حكومة جديدة إجراء لن يفلح في تغيير الوضع، لأن المشكلة في بنية وطريقة عمل الحكومة ومن يتحكم في قراراتها أكثر منها في الأشخاص الذين يتولون المسؤولية.
زمن العقوبات الجماعية قد ولّى؟
يتم تشديد العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر بعد أيام من تمديد العقوبات الأوروبية على سوريا لمدة عام آخر. يأتي ذلك في وقت دعا فيه الأمين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش إلى رفع العقوبات التي تعرقل مكافحة تبعات فيروس كورونا. ومما يدعو للغرابة أكثر أن الاتحاد الأوروبي مدد العقوبات رغم دعوته أوائل أبريل/ نيسان إلى تخفيفها عن سوريا وفنزويلا وإيران ودول أخرى بهدف مساعدتها على مواجهة فيروس كورونا.
وفي تحليل لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى المقرب من الإدارة الأمريكية تحت عنوان "قانون قيصر يدخل حيز التنفيذ: زيادة عزل نظام الأسد" تم التأكيد على أن "العقوبات لم تفلح حتى الآن في ثني الرئيس الرئيس الأسد عن تغيير سياساته".
ويرى عدد من الخبراء الألمان بينهم الكاتب والصحفي ماتياس فون هاين أن "المفارقة في أن العقوبات الأوروبية التي تستند إلى المخاوف على حقوق الإنسان تشمل 14 قطاعا مثل محطات توليد الطاقة ومضخات المياه ومعدات صناعة الطاقة وقطع التبديل والتحويلات المالية، ما يشطل عقوبة جماعية للسوريين ويعيق حصولهم على الكهرباء والأدوية والطعام إلخ".
وهذا يعني أن عقوبات قانون قيصر ستكون أشد وطأة خلال الأيام والأسابيع القادمة، إلا إذا حصل تطورات مفاجئة تدفع الولايات المتحدة إلى التخفيف منها أو تأجيل تنفيذها. وقد يحصل بعض الانفراج أيضا في حال أقدمت الصين مثلا على تقديم المزيد من الدعم لسوريا، لأن روسيا وإيران حليفتا دمشق تعانيان من عقوبات غربية أيضا وليستا في وضع اقتصادي يسمح لهما بمساعدة سوريا على تجاوز المحنة التي تمر بها حاليا.
إضافة إلى ما تقدم أظهرت خبرات العقود السبع الماضية ومنذ حصار كوبا المستمر منذ عام 1959 أن العقوبات الغربية لم تفلح في إسقاط أنظمة معادية للغرب بدءا من العراق أيام صدام حسين وانتهاء بفنزويلا أيام خافيير شافيز مرورا بكوريا الشمالة وكوبا وليبيا وغيرها. كما أظهرت أن هذه العقوبات تصيب المواطنين العاديين في حياتهم اليومية وليس صناع القرار الذين ينعمون حتى في ظل العقوبات بمزيد من الرفاهية.
ومن الأدلة على ذلك حقيقة أن صدام حسين بنى أفخم قصوره إبان العقوبات الغربية على نظامه، في حين عانى ملايين العراقيين الجوع والحرمان من الدواء بسببها. السؤال، هل يعي المسؤولين عن فرض العقوبات وفي مقدمتهم الرئيس ترامب هذه الحقيقة ويرفعون العقوبات الجماعية إلى غير رجعة؟
إبراهيم محمد