مكامن المسؤولية عن التخلف والفقر في العالم العربي
١٧ نوفمبر ٢٠١٨غالبا ما يصب المحللون وصناع القرار في الدول العربية جم غضبهم على البلدان الصناعية الرئيسية في العالم محملين إياها مسؤولية الفقر والتخلف في بلدانهم بسبب الخلل القائم في التجارة العالمية لصالح الأخيرة. ويستند هذا الخلل الذي تعاني منه على مدى عقود طويلة الدول الفقيرة والنامية ومن ضمنها الدول العربية على دعائم عدة في مقدمتها الدعم السخي التي تقدمه الحكومات الغربية والصناعية لمنتجاتها الزراعية بحيث تصبح هذه المنتجات منافسة لمثليتها في البلدان النامية والفقيرة حتى في عقر دار الأخيرة. وتذهب التقديرات إلى أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان تقدم يوميا دعما بقيمة مليار دولار لمنتجات محلية يمكن استيرادها من الدول الفقيرة. وهو الأمر الذي حوّل الأخيرة إلى بلدان تعتمد على استيراد اغذيتها وألبستها بنسبة 80 بالمائة. وتصل هذه النسبة في بعض الدول العربية إلى 85 بالمائة أو أكثر. ويتناقض سلوك البلدان الصناعية هذا بشكل صارخ مع الليبرالية الاقتصادية التي تتبعها داخل بلدانها وتنادي بها على الصعدي الدولي.
الدول الصناعية تناقض نفسها
إلى جانب الدعم الزراعي الحكومي تعزز البلدان الصناعية حواجزها الجمركية وشروطها الفنية والتقنية في وجه منتجات الدول الفقيرة بحجة أن مواصفاتها لا تتطابق مع المواصفات الأوروبية والغربية. كما تفرض استثناءات وما أكثرها على الاستيراد من هذه المنتجات. ولعل تجربة المغرب في صادراته من الطماطم إلى بلدان الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك. وتفيد هذه التجربة بزيادة معوقات التصدير أمام هذه الطماطم إذ كان دخولها إلى السوق الأوروبية يعيق تسويق مثيلتها الاسبانية والهولندية والإيطالية، بينما تتراجع هذه المعوقات في حال عدم قدرة الطماطم الأوروبية على تغطية حاجات السوق الداخلية. هذا ويستخدم الغرب الضغوط السياسية بشكل علني ومستور للتوصل إلى اتفاقات التعاون والشراكة الاقتصادية واستغلال الثروات الطبيعية كما في حال مبيعات النفط لبعض الدول والثروة السمكية في المغرب وموريتانيا. كما أنه يدعم الدكتاتوريات والأنظمة القمعية إذا كان ذلك يخدم مصالحه الاقتصادية على حساب مصالح الشعوب التي تسيطر عليها هذه الدكتاتوريات.
هل تكمن المشكلة في التجارة غير العادلة؟
رغم كل هذه المعوقات هل يمكن القول أن التجارة غير العادلة أو التي لا تقوم على تكافؤ الفرص هي السبب الأساسي وراء حلقة التأخر والفقر التي تبدو شبه مغلقة في الدول العربية؟ في الحقيقة ورغم تبعات التجارة غير العادلة هناك دول عربية لاينقصها المال كالدول النفطية الخليجية، وهناك دول عربية أخرى كمصر وسوريا والمغرب وتونس والعراق لديها موارد طبيعية بمستوى جيد إضافة إلى موارد بشرية بمستويات تعادل في معظم المجالات مثيلتها في بلدان صاعدة على الصعيد الفردي. لكن ورغم كل هذه الثروات فالواقع يفيد بأنه لا يوجد دولة عربية واحدة استطاعت حتى الآن الوصول إلى عتبة البلدان الصاعدة أسوة ببلدان آسيوية كانت تعاني الفقر والتأخر مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة قبل بضعة عقود أو تايلاند وفيتنام وأندونيسيا حتى عهد قريب. وقد تمكنت هذه البلدان من كسر حلقة الفقر والتخلف رغم معاناتها أيضا من غياب عدالة التجارة العالمية وهيمنة الدول السبع الصناعية الكبرى عليها. ومن هنا يأتي السؤال الذي تصعب الإجابة عليه، وهو لماذا لاتنتقل دول عربية إلى مصاف الدول المتقدمة رغم ثرواتها الطائلة؟
المال لوحده لا يجلب التطور
إذا ما تجاوزنا هذه المرة التحليلات المتكررة والمملة في تشابهها حول تحميل الدولة الوطنية الشمولية والدكتاتوريات العربية لوحدها مسؤولية الفقر والتخلف، فإن التجربة التاريخية والمعاصرة لمعظم بلدان العالم المتقدمة تفيد بأن الأموال لوحدها لا تولد التصنيع والتقدم والرفاهية إلا إذا وقعت في أيادٍ قادرة على إدارتها من أجل تحقيق هذا الهدف. ولعل خير مثال على ذلك دولة صغيرة مثل النرويج التي انتقلت في غضون أقل من نصف قرن من بلد زراعي إلى بلد صناعي متقدم بفعل الاستخدام الرشيد لفوائضها النفطية، في حين أن الدول العربية النفطية الأكثر ثروة ما زالت تعتمد بنسبة تصل إلى 90 بالمئة أو أكثر على هذه الفوائض من النفط الخام. كما أن كوريا الجنوبية بنت صناعاتها التحويلية اعتبارا من ستينات القرن الماضي من فوائض تصدير الرز الذي كانت تعتمد عليه آنذاك بشكل يشبه اعتماد العرب على نفطهم منذ ستينات القرن الماضي حتى اليوم.
المشاريع كوسيلة للسرقة
يتركز القسم الأكبر من ثروات الدول العربية في أيدي حكوماتها ونظمها الشمولية. وتركز هذه الحكومات وبشكل بارز في خططها الاقتصادية والخدمية على مشاريع كبيرة ضعيفة الجدوى إلى جانب نفقات ضخمة على شراء الأسلحة والخدمات الأمنية. وتكمن إحدى المشاكل هنا في بناء المشاريع الضخمة التي لاتعمل بطاقتها القصوى ولا تتجاوز خدماتها المدن الرئيسية. وفي هذا الإطار تأخذ أشكال الفساد الحكومي والإداري مجدها بسبب التكلفة العالية لهذه المشاريع وسهولة اساءة استغلال أموالها. ويأتي التركيز على هذه المشاريع في ظل غياب واضح للصناعات التحويلية الصغيرة والمتوسطة التي تقوم على تحويل المواد الأولية المحلية إلى منتجات صناعية ذات قيمة مضافة. وهناك أيضا غياب واضح للمشاريع العلمية التطبيقية والصناعية التي تجمع الكفاءات الفردية تحت سقف مؤسسات علمية وبحثية تطبيقية مرتبطة بالزراعة والصناعة والحرف والخدمات بهدف تطويرها على أساس شامل في المدن والأرياف. وهوالأمر الذي يدفع هذه الكفاءات للهجرة إلى مختلف أنحاء المعمورة.
القطاع الخاص وغياب الاستدامة
وتسلك مؤسسات القطاع الخاص في المجتمعات العربية سلوكا في غاية السلبية في مجال التنمية، فهذه المؤسسات باستثناء القليل منها ليس لديها رؤية الانخراط في مشاريع مستدامة تجمع الكفاءات المتاحة وتساهم إلى جانب الدولة في تأهيل الشباب وتشجيعهم على ممارسة مختلف المهن الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية والمالية. وعوضا عن ذلك فإنها تستغل العاملين لديها إلى أقصى حدود الاستغلال ولا تدفع لهم الأجر الذي يوفر لهم حياة كريمة إضافة إلى التهرب من دفع الضرائب وتكليف الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. ويتم هذا في ظل غض النظر من قبل موظفي الدولة الذين يتقاضون الرشوة مقابل السكوت عن التجاوزات. ويسود في المجتمعات العربية ثقافة عمل كارثية حيث ينظر الناس إلى بعض الأعمال الهامة لتطوير بلدانهم باحتقار. وتكمن الكارثة هنا في أن معظم العائلات العربية أو كلها تريد أن ترى أبناءها إما أطباء أو مهندسين وليس من أصحاب المهن المذكورة أعلاه. وإذا ما توفرت لديها الثروة، فإن شراء العقارات والذهب وحياة البذخ تكون في المقدمة. أما المزرعة والمصنع وإحياء الحرف التقليدية وما شابهها فلا يتم التفكير فيها إلا ما ندر لأنها حسب نظرتهم صعبة وتعكر عليهم حياة الاسترخاء التي يعيشونها. وهكذا فإن الفقر يولد الفقر ونبقى في حلقة مفرغة تجد أرضها الخصبة في دكتاتوريات وأنظمة شمولية وقيم غيبية ودينية بالية أبتلى بها العالم العربي أكثر من أية منطقة أخرى.
الكاتب: ابراهيم محمد