ساعة واحدة بعد تنصيبه، تصدرت تغريدة حساب الرئيس بايدن على تويتر، تحمل أولوية الأولويات في إدارته. وتبدأ بإعادة البناء من مواجهة أزمة كوفيد الطارئة وإعادة الزخم لقانون الرعاية الصحية الذي وضعته إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق أوباما، كما تتصدر المرحلة الجديدة قضية تضميد جراح أمريكا التي خلفتها السياسة الشعبوية والانقسامات العرقية إبان حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقد لخصت التغريدة عنوان المرحلة الجديدة بـ: "إعادة البناء".
وحتى إذا لم تكن مقولة "أمريكا أولا" شعار مرحلة ترامب، فإن إدارة الرئيس بايدن ستكرسها في الواقع على الأقل في مرحلة أولى، نظرا للتركة الثقيلة التي يرثها من سلفه الجمهوري. لكن بدل نهج الإنعزال الذي توخاه ترامب في بدايات ولايته، فان إدارة بايدن تعتزم تجديد الإلتزام بعدد من الإتفاقيات والقضايا الدولية التي تخلى عنها ترامب، في مقدمتها اتفاقية المناخ والعلاقة مع منظمة الصحة العالمية وملف الهجرة، والعمل على إضفاء روح تعاون جديدة مع الشركاء وخصوصا الأوروبيين وداخل حلف الناتو الذي تركه ترامب في حالة شبه "موت سريري" كما وصفه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة كقوة أولى في العالم تحديا متزايدا من "التنين" الصيني وعودة ملحوظة لدور "الدب الروسي".
لكن ما موقع ملفات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة؟
"تحديات مبكرة" في منطقة حبلى بالتغيّرات
يبدو أن إدارة الرئيس بايدن، ستكون مضطرة على مباشرة ملفات عديدة في العالم العربي حتى ولو كانت تعتبرها لا تحظى بالأولوية، وذلك لأسباب ودوافع عديدة يمكن رصد عدد منها استنادا إلى وثائق وتقارير معتمدة بوزارة الخارجية والبنتاغون (وثيقة القوة الاستراتيجية الأمريكية 2017) والكونغرس (مذكرة الخبراء لأعضاء الكونغرس يناير/ كانون الثاني 2021):
أولا: متغيرات متسارعة في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، وترتبط بأدوار متزايدة لقوى كبرى صاعدة منافسة للولايات المتحدة في مقدمتها الصين ثم روسيا، وبتحركات قوى إقليمية تسعى لكسب مواقع نفوذ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وملء فراغات تركها تراجع الدورين الأمريكي والأوروبي في السنوات القليلة الأخيرة، ويتعلق الأمر بإيران وتركيا وإسرائيل.
وثانيا: متطلبات الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، في مجالات والأمن والدفاع والحفاظ على مصادر الطاقة والمصالح التجارية.
ثالثا: أن حفاظ الولايات المتحدة على دورها القيادي، سيضطرها للتحرك الديناميكي المتواصل والتعامل مع المتغيرات الجديدة في منطقة حبلى بالتوترات وشديدة التغير منذ بداية أحداث الربيع العربي، ويُرجح خبراء أمريكيون بهذا الصدد بأن تفرض "تحديات مبكرة" على إدارة الرئيس بايدن، كما يصفها مايكل ايزنشتات مدير برنامج الدراسات الأمنية والعسكرية بمعهد واشنطن للدراسات. وهي تحديات سواء كان مصدرها خصوم أو أصدقاء واشنطن يحاولون عمدا قياس عزمها على التعامل مع الأحداث، أو حدث بالصدفة، وفي كلا الحالتين، فان القيادة الأمريكية ستكون محل اختبار.
إدارة بايدن ولعبة الشرق الأوسط المعقّدة
إذا كانت إسرائيل تتصدر تقليديا سلم الأولويات والمصالح التي يضعها صانعو القرار السياسي الأمريكي، فان الأدوار الجديدة التي لعبتها إسرائيل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في فترة إدارة الرئيس السابق ترامب والخطوات الديبلوماسية التي قامت بها هذه الأخيرة بالمنطقة في الساعات الأخيرة، تضع الإدارة الجديدة أمام مهمة صعبة.
وتأتي في مقدمة تلك الخطوات اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وهي خطوات يؤيد كثيرون في الولايات المتحدة ولدى شركائها في الإتحاد الأوروبي والدول العربية، الحفاظ عليها.
وتُطرح فرضية إقدام بايدن على إطلاق محادثات إسرائيلية فلسطينية جديدة على غرار محاولات سلفه الديمقراطي أوباما، لكن يبدو من المستبعد تكرارها - على الأقل - بنفس المنطلقات التي استندت إليها إدارة أوباما في ولايته الثانية، تفاديا لتكرار الفشل. وحجة أصحاب هذا الرأي أن اللاعبين هم أنفسهم ونقاط الخلاف هي نفسها، وفي الديبلوماسية كما في لعبة الشطرنج، يؤدي لعب نفس الحركات بنفس القطع دائما إلى نفس النتيجة، كما يستنتج الكاتب الصحفي المحافظ بريت ستيفنس بصحيفة "نيويورك تايمز" في مقال له بمجلة "كومنتري ماغازين" التي تصدرها هيئات يهودية نافذة بنيويورك، بعنوان"مذكرة إلى الرئيس بايدن: رجاء لا تفسد اتفاقيات إبراهام".
وأمام الإدارة الجديدة خيار الإنطلاق مما حققته إدارة ترامب، على أساس أن جنيَ مكاسب يُقدَّم على تحمل تبعات نقض ما حققته الإدارة السابقة وإثارة أزمة في العلاقة مع إسرائيل الحليف التقليدي لأمريكا.
لكن فريق بايدن يواجهه في كلا الحالتين تحدِّيَ التعامل مع التغييرات غير المسبوقة في السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، التي أقرتها "صفقة القرن" وأثارت انتقادات ليس فقط من الجانب الفلسطيني والعربي بل أيضا من الشركاء الأوروبيين، والمتمثلة في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ومسألة المستوطنات وضم مناطق كبيرة من الضفة إلى إسرائيل، إضافة إلى ضم مرتفعات الجولان السورية إلى إسرائيل. وقد بدأت أولى الإشارات تظهر من الإدارة الجديدة على الأقل بشأن بقاء السفارة في القدس.
قواعد جديدة للعبة في شمال أفريقيا؟
وهنالك مستوى ثان من المتغيرات التي حدثت في السنوات القليلة الأخيرة، وتتمثل في الاختراقات التي حققتها إسرائيل بمناطق الخليج وشمال وشرق أفريقيا. فحتى قبل توقيع اتفاقيات أبراهام، اعتمدت إدارة الرئيس السابق في مواجهتها لإيران على إبرام تحالف غير مسبوق بين إسرائيل والسعودية والإمارات. ولا يبدو أن هذا التحالف سيتم الاستغناء عنه على الأقل في المدى القريب، نظرا لأن إدارة الصراع مع إيران بالنسبة للأمريكيين سوف لن تكون سهلة، حتى في سبيل إعادة تفعيل الاتفاق النووي. وقد بعثت إدارة بايدن إشارة في هذا الإتجاه بأنها لن تسمح بإمتلاك إيران لسلاح نووي.
وبعد توقيع إتفاقيات أبراهام، باشر البنتاغون خطوات نقل إسرائيل من مجال القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي، إلى مشمولات القيادة المركزية للجيش الأمريكي التي تضم دول الشرق الأوسط، وهي عملية ستسمح "بتعاون إقليمي أكبر مع الدول العربية" ضد إيران ومواقع نفوذها بسوريا والعراق، بحسب محللين إسرائيليين وأمريكيين.
أما الوجه الآخر لأهداف هذا التغيير، فيكمن في دور إسرائيل في التمركز الجديد للقوات الأمريكية بشمال أفريقيا وشرقها، بعد نقل مقر قوات "أفريكوم" من شتوتغارت الألمانية إلى أفريقيا. وبالإضافة إلى التعاون الاستراتيجي القائم تقليديا مع مصر منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد سنة 1978، فقد وقع البنتاغون قبل بضعة أشهر اتفاقيتي شراكة عسكرية مع كل من المغرب وتونس، تمتد لعشر سنوات.
والمغرب، أقدم حليف للولايات المتحدة في شمال أفريقيا، يعتبر من أبرز الشركاء الذين حققوا مكاسب استراتيجية في هذا السياق، أولا باتجاه تعزيز وضعيته كـ"حليف رئيسي من خارج حلف الناتو"، عبر اتفاقيات عسكرية وتجديد معداته ومقتنياته من السلاح الأمريكي. وكشريك أساسي في مكافحة الإرهاب بالقارة الأفريقية.
وثانيا عبر حصوله على إعتراف أمريكي رسمي بسيادته على أقاليم الصحراء الغربية، وتأييد مبادرته التي طرحها بتسوية النزاع مع جبهة البوليساريو على أساس "حكم ذاتي موسع". وكان لافتا أن الموقف الأمريكي تم تكريسه بشكل رمزي باعتماد خارطة جديدة للمغرب تضم الأقاليم المتنازع عليها، وصدرت هذه الخريطة رسميا عن السفارة الأمريكية بالمغرب كما اعتمدت في الموقع الرسمي لحلف الناتو.
وبالمقابل فقد تركت إدارة ترامب ملفات معقدة أمام الإدارة الجديدة في كل من ليبيا والجزائر. ففي البلدين الغنيين بمواد الطاقة من النفط والغاز، التي تعتبر ضمن مرتكزات الأمن القومي الأمريكي، ستواجه إدارة بايدن إختبارا صعبا في التعامل مع النفوذ الصيني والروسي.
وفي ليبيا، مهدت إدارة ترامب أرضية لاتفاق سلمي لإنهاء الحرب الأهلية بقيادة الديبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، لكن العقبة الكأداء في طريق هذا الاتفاق ما تزال قائمة، وتتمثل في إخراج القوات الأجنبية وعناصر الميليشيات المرتزقة المرتبطة بروسيا وبالحليف التركي.
بينما يكمن التحدي أمام الإدارة الأمريكية الجديدة في العلاقة مع الجزائر، في إدارة "الحوار الاستراتيجي" الذي انطلق على أرضية التفاهم في ملف الحرب على الإرهاب، لكنه يشهد منذ سنوات تعثرا بسبب تنامي اعتماد الجزائر على روسيا كأول مزود بالسلاح وعلى الصين كأول شريك تجاري، وأضيفت إليها في نهاية فترة إدارة ترامب تعقيدات جديدة على خلفية الموقف الأمريكي في ملف الصحراء الغربية.
عودة للدور الأوروبي.. لكن كيف؟
في تصريحات له قبل توليه رسميا مهمته كوزير للخارجية تحدث أنطوني بلينكن مستشار الأمن القومي السابق في عهد إدارة الرئيس أوباما، عن مؤشرين -على الأقل- لمنهجية الإدارة الأمريكية الجديدة في التعاطي مع الضغوط التي يمكن أن تظهر في إدارة الملفات المعقدة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. المؤشر الأول: أن الولايات المتحدة لديها كقوة أولى في العالم قدرات وموارد للتعامل مع ملفات موازية ومتزامنة. أما المؤشر الثاني، فيتمثل في تغيير نمط إدارة الأزمات والقضايا الدولية من "المقاربة الأحادية" التي كان يعتمدها ترامب إلى مقاربة "الشراكة مع الحلفاء".
وتراهن برلين وباريس وبروكسيل على إخراج العلاقات الأطلسية من مستنقع الشكوك والخلافات التي ظهرت في عهد إدارة ترامب، وإعادتها إلى سكة التنسيق والتعاون العميق. وبدوره أكد بايدن على حرصه على إعادة اللحمة إلى التحالف الغربي. لكن هذا الرهان سيتم اختباره في مستوى المفاوضات التجارية وفي صلب حلف الناتو وفي ملفات أخرى مثل إدارة العلاقة مع روسيا والملف النووي الإيراني. وهو اختبار أيضا لتوجهات الأوروبيين الذين يبدو أنهم أخذوا عبرة من أزمات عديدة وخصوصا سوريا وليبيا، بالسعي لبناء قوة أوروبية مستقلة عن "العم سام".
وعندما تطرح ملفات استراتيجية في شمال أفريقيا والقارة الأفريقية التي تتحول تدريجيا وأكثر من أي وقت مضى إلى منطقة صراع نفوذ عالمي، يبدو دور الشريك الأوروبي كعنصر أساسي في حسابات ودوائر التحرك الإستراتيجي الأمريكي بمنطقة هي أصلا تشكل الجوار الأكبر للإتحاد الأوروبي، كما يمكن اعتبارها قاعدة إرتكاز رئيسية في سبيل النفوذ بالقارة الأفريقية في مواجهة النفوذ الصيني والروسي.
لكن التحرك في هذه المنطقة يشبه كثيرا السير فوق رمال متحركة، قد تظهر فيها متغيرات ومطبّات في أي خطوة. ويتوقع محللون أن تواجه الإدارة الجديدة مبكرا ملفات شائكة في المنطقة، حتى ولو كانت لا ترغب في التعاطي معها كأولوية، وضمنها موضوع الإعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وارتباطه من ناحية باتفاقيات أبراهام مع إسرائيل وتداعياته المتوقعة من ناحية أخرى على العلاقة مع الجزائر.
ففي الوقت الذي يسعى فيه المغرب لتعزيز مكاسبه الديبلوماسية في هذا الملف على الصعيدين الأفريقي والدولي، قد تسعى الجزائر إلى تصعيد التوتر في المنطقة على غرار المناورات العسكرية التي قام بها الجيش الجزائري منذ أيام قليلة بالذخيرة الحية في منطقة تيندوف التي تأوي مقر جبهة البوليساريو ومخيمات اللاجئين الصحراويين. أو ممارستها (الجزائر) ضغوط على اللاعبين الأمريكي والأوروبي على أصعدة اقتصادية أو ديبلوماسية، من أجل العودة إلى نقطة الصفر في التعاطي الدولي مع النزاع وتنظيم استفتاء لتقرير مصير، وكبح خطوات المضي في اتجاه ايجاد تسوية سياسية على أساس مبادرة "الحكم الذاتي الموسع"التي طرحها المغرب منذ سنة 2007، التي تحظى بدعم واشنطن وعواصم أوروبية.
ولاستشراف سيناريوهات تطور أداء اللاعبين الأمريكي والأوروبي في هذه الدائرة، يمكن وضع ثلاثة محددات:
المحدد الأول: الاعتماد على عنصر الاستمرارية في السياسة الخارجية والدفاعية الأمريكية، باعتبارها نتاج توافقات كبرى بين صناع القرار الأمريكيين سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين أو كدوائر مؤثرة في البنتاغون والديبلوماسية وجماعات الضغط.
وتشكل "استراتيجية القوة الأمريكية" التي أقرت سنة 2017، وثيقة أساسية في توجيه سياسة الإدارة الجديدة. وفي ضوئها يتم تشخيص المصالح وموازنة الأولويات، في التعامل مع ملفات شمال أفريقيا.
ويرجح محللون بأن تنتهج الإدارة الجديدة أسلوبا مشابها لما قامت به إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر (ديمقراطي) عندما راكمت نتائج سياسة الإدارة الجمهورية في عهد الرئيس نيكسون ووزير الخارجية كيسنجر فيما يتعلق بملف الشرق الأوسط وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد. ويذهب الخبير والديبلوماسي الأمريكي (سفير سابق بالعراق) جيمس جيفري في مقال له نشر بمجلة فورين أفيرز (15 يناير/ كانون الثاني 2021) في توقعاته إلى أن "إدارة الرئيس بايدن ليست بحاجة إلى سياسة جديدة في الشرق الأوسط".
ويتمثل المحدد الثاني، في اعتبار حقوق الانسان ودعم الديمقراطية ومناهضة الشعبوية والتطرف، معيارا أساسيا في تشخيص المصالح وتحديد الأهداف، وهو معيار سيتم الاعتماد عليه بشكل مشترك مع الأوروبيين، في التعامل مع ملفات عديدة. مثل دعم الديمقراطية الناشئة في تونس والضغط من أجل النهوض بأوضاع حقوق الانسان في مصر والجزائر. وستجد الإدارة الديمقراطية في هذا المعيار مستندا لتكييف الموقف الأمريكي وتنسيقه مع الأوروبيين، لدعم تسوية لملف الصحراء الغربية بالأمم المتحدة وإنهاء هذا الملف الذي يكلف استمراره ثمنا باهضا على الاستقرار في المنطقة المغاربية والأمن الأوروبي، ويعطل فرصا كثيرا في الاندماج الأفريقي.
أما المحدد الثالث، فيتعلق بتوزيع الأدوار بين الشريكين الأمريكي والأوروبي. ويبدو أن المعادلة الأكثر ترجيحا في هذا السياق، هو تركيز الجانب الأمريكي على دور استراتيجي "ناعم" Soft security، في الحرب على الارهاب ومواجهة التحديات الأمنية الجديدة، بموازاة دور أوروبي يرافق برامج التنمية ودعم الديمقراطية والشفافية والحكم الرشيد، وهي معادلة ملائمة أيضا لأدوار أمريكية وأوروبية متكاملة في المنطقة، للمساعدة على الاستقرار ومواجهة معضلات البطالة والهجرة وانسداد الآفاق أمام الشباب.
منصف السليمي