تحليل: مستقبل مظلم أمام الليرة اللبنانية مع غياب حكومة فاعلة
٨ مارس ٢٠٢١في لبنان يقطع محتجون الطرقات مجدداً احتجاجاً على تردي الأحوال المعيشية وتدهور سعر العملة اللبنانية بشكل دراماتيكي ينذر بمصير مشابه لمصير العملة الفنزويلية. ومن بيروت تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد صادمة من أحد المتاجر حيث يتشاجر الناس للحصول على علبة حليب مجفف ما تزال من ضمن قائمة سلع تحظى بدعم الدولة لسعرها. غير أن الأخيرة لم تعد قادرة على الاستمرار في هذا الدعم وتوفير السلع الأساسية للبنانيين بسبب شح احتياطي مصرف لبنان المركزي من العملات الصعبة. وهو الأمر الذي يدفع المزيد من سكان لبنان إلى الفقر والجوع بسبب العجز عن دفع أسعار السوق الحرة التي تشهد ارتفاعا جنونيا غير مسبوق.
ويمكن لنا إدراك حجم الكارثة التي ألمت باللبنانيين إذا قارنا الفرق بين سعر عملتهم التي انهارت حالياً إلى نحو 11 ألف ليرة مقابل دولار أمريكي واحد وسعرها في سبتمبر/ أيلول 2019 عندما كان بحدود 1500 ليرة للدولار. ومما يعنيه ذلك أن متوسط الدخل الذي كان بحدود 700 ألف ليرة، ما يعادل نحو 470 دولار أضحى اليوم أقل من 64 دولاراً في الشهر.
ويمكن للمرء على ضوء ذلك أن يتصور مدى التدهور الحاصل في مستوى المعيشة وتبعاته على الفئات محدودة الدخل. وإذا كانت نسبة الفقراء خلال العام الماضي 2020 تضاعفت لتصل إلى 55 بالمائة من السكان حسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا"، فإن التدهور المستمر منذ بداية العام الجاري ينبئ بارتفاع هذه النسبة إلى أكثر من الثلثين في الوقت الحالي.
من المسؤول عن التدهور؟
تتبادل الحكومة اللبنانية ومحللين مقربين منها من جهة والمصارف بما فيها مصرف لبنان المركزي من جهة أخرى التهم في تحميل المسؤولية عن تدهور سعر الليرة. وتقول التهمة الموجهة للبنوك إنها تضارب في السوق لشراء الدولار بأي سعر، لأن مصرف لبنان المركزي ألزمها في لإطار خطة لإعادة هيكلتها برفع رأسمالها بنسبة 20 بالمائة وزيادة احتياطاتها من العملات الأجنبية لضمان متطلبات السيولة المصرفية في الخارج بمبالغ إضافية تزيد على 4 مليارات دولار. وهو الأمر الذي أدى إلى شح الدولار في السوق وارتفاع سعره بشكل جنوني لم يتوقف حتى الساعة.
غير أن جمعية المصارف نفت مسؤوليتها عن تدهور سعر الليرة معتبرة في بيان صحفي نشرته وكالة الأنباء الألمانية أن الأسباب الكامنة وراء هذا التدهور تعود إلى "الضبابية السياسية في البلاد على ضوء التخبط السياسي والتجاذبات والمناكفات في غياب أي جهد جدي وحقيقي لتأليف حكومة جديدة ".
وأشارت الجمعية في بيانها إلى الدور الذي يلعبه تزايد العجز التجاري المقدر بنحو 10 مليارات دولار خلال العام الماضي وتزايد حجم الاستيراد غير المدعوم من قبل الدولة. غير أن عدم نفي الجمعية لقيام المصارف بشراء الدولار الشحيح أصلاً في السوق بأسعار مضاربة، يعني بشكل أو بآخر أنها تساهم في رفع سعره من خلال طلبها المتزايد عليه.
ويزيد الطين بلة أن البنوك اللبنانية تمنع منذ أواخر 2019 المودعين من التصرف بودائعهم الدولارية بعدما قلصت السحب منها إلى 1000 دولار شهرياً مقابل أقل من 4000 ليرة للدولار بحجة الحفاظ على الاستقرار المالي الذي تحول إلى سراب على أرض الواقع. ويصف محللون هذا المنع على مرأى الحكومة بأنه عملية احتيال من شأنها الاستيلاء بغير وجه حق على جزء من أموال المودعين في سابقة لم يشهدها لبنان في تاريخه.
ومن تبعات ذلك حدوث تراجع غير مسبوق في التحويلات المالية الخارجية للمغتربين اللبنانيين عبر هذه البنوك خوفاً من مصادرتها، وهو الأمر الذي زاد من مشكلة عدم توفر الدولار في السوق. ويزيد الطين بلة قيام المسؤولين والنخب النافذة بتهريب أموالها بالمليارات إلى خارج البلاد بُعيد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في خريف 2019.
وما التحقيقات التي تجريها سويسرا بشأن تحويلات بعشرات الملايين تمت عن طريق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة إلى البنوك السويسرية، سوى أحد الأدلة على ذلك.
هل أصبح الحل شبه مستحيل؟
في الوقت الذي اندلعت فيه احتجاجات جديدة وخطيرة على ضوء موجة الغلاء الجديدة، يبدو إنقاذ الليرة اللبنانية بعيد المنال في ظل نخبة طائفية تتقاسم موارد بلادها على شكل غنائم. وجاءت تبعات جائحة كورونا التي أدت إلى شلل السياحة والسفر والقطاعات الخدمية التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني لتزيد الضغط على قيمتها في وقت تراجع فيه الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25 بالمائة خلال العام الماضي 2020.
وزاد الطين بلة الخسائر الفادحة التي لحقت بالتجارة اللبنانية بعد انفجار مرفأ بيروت في وقت زاد فيه حجم الديون العامة على 94 مليار دولار، أي أكثر من 170 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم مرور سبعة أشهر على استقالة الحكومة، فإن النخب السياسية الطائفية وداعميها في الخارج من قوى إقليمية ودولية لم تتمكن بعد من الاتفاق على حكومة تبادر إلى وقف تدهور الليرة في إطار إصلاحات اقتصادية مؤلمة تؤدي إلى استئناف التفاوض مع صندوق النقد الدولي والمانحين الذين تعهدوا بتقديم 11 مليار دولار كقروض ومساعدات لإنقاذ الوضع شرط البدء بعملية الإصلاح.
وفي ظل تعنت الأطراف المعنية بإيجاد حل وتمسكها بمواقفها مهما كان الثمن، طالب رئيس حكومة تصريف الأعمال المستقيلة حسان دياب النخب اللبنانية بالإسراع في تشكل حكومة جديدة بعدما وصل البلد إلى "حافة الانفجار بعد الانهيار" على حد قوله. وهدد دياب بالاعتكاف إذا كان ذلك "يشكل ضغطاً باتجاه هذا التشكيل".
لكن وعلى الرغم من أهمية القيام بهذه الخطوة في الظرف الراهن فإن أي حكومة لبنانية في ظل النخبة السياسية الحالية الفاسدة لم تفلح سوى في إيجاد حلول مسكنة لن تكون كافية لاستقرار عملته وإخراج لبنان من دوامة أزمات وجودية يعيشها بشكل متكرر منذ إقامته الدولة الحالية قبل مائة سنة. وعلى ضوء ذلك يطالب محللون أمثال أكرم رباح باستمرار ضغط الشارع "حتى تترك الطبقة السياسية الحالية بأكملها السلطة بعد ثلاثة عقود من تركها للبلاد منقسمة وغارقة في الفساد". غير أن رؤية هذا المحلل وهو محاضر في الجامعة الأمريكية تبدو غير واقعية في الظروف الراهنة لأن الاحتجاجات الشعبية لم تفرز بدائل للطبقة السياسية الحاكمة.
ولا ننسى أيضاً أن القسم الأكبر من اللبنانيين ملتف حول زعاماته الطائفية رغم كل ما يجري. ويدعم هذه الزعامات بقوة قوى إقليمية ودولية متضاربة المصالح والأهداف وفي مقدمتها السعودية وإيران والولايات المتحدة وفرنسا.
إبراهيم محمد